مصر في عهد بيبرس
أصبح بيبرس بعد مصرع قطز سلطاناَ للدولة المملوكية في ذي الحجة سنة 658 هـ / 1260 م ، ويعتبر بيبرس من أعظم سلاطين المماليك ، فقد وطد دعائم الدولة المملوكية الوليدة ، كما أحيا الخلافة العباسية في القاهرة بعد أن غربت شمسها في بغداد بعد الغزو المغولي .
بدأ بيبرس عهده بأن أسترضى المصريين بأن ألغى بعض الضرائب التي كان قطز قد فرضها وأثارت شكواهم . ولكن ما لبث أن قامت في وجهه ثورة أعلنها الأمير سنجر الحلبي نائبه في دمشق ، فخلع طاعة بيبرس وأتهمه بقتل قطز ، وأعلن نفسه سلطاناَ على دمشق ، فبعث بيبرس بجيش أرغم سنجر على الفرار ، وعادت دمشق وما يتبعها من مدن إلى طاعة بيبرس . ودعم بيبرس نفوذه بأن قتل المغيث أمير الكرك الأيوبي فاختفت تماماَ كل آثار الحكم الأيوبي في بلاد الشام .
كانت نهاية بيبرس من هذه المتاعب عاملا على تفرغه للأعداء الخارجين الألداء : المغول والصليبيين . فقد كان المغول يتطلعون للأخذ بثأر هزيمتهم في عين جالوت ، وأملوا في التحالف مع الصليبيين ، ولكن القوى الصليبية كان قد لحق بها الضعف فلم تعد يحفل بيبرس بيبرس بها . وتحالف بيبرس مع طائفة أخرى من المغول هم مغول القفجاق ( القبيلة الذهبية ) وكان ملكهم قد اعتنق الإسلام وأصبحوا في عداء لمغول فارس .
مات هولاكو ؛ فخفت روح العداء ، وأراد ابنه وخليفته ( أبغا ) عقد صلح مع بيبرس ، ولكن بيبرس رفض عرضه ، فلم ينسى المسلمون ما أنزله المغول بمدن العراق والشام من فظائع وآثام . فبعث أبغا رسله إلى الإمبراطور البيزنطي ينشد صداقته ، وأراد التحالف مع الصليبيين ضد المماليك المسلمين . وبعث بيبرس جيوشه لقتال المغول ، فاشتبكت معهم في سلسلة طويلة من الحروب ، تخللتها هزائم كثيرة أنزلها المماليك بالمغول ، وتوفي بيبرس خلال القتال .
أحيا بيبرس الخلافة العباسية ، وسنفصل الحديث عن ذلك بعد قليل . ووضع بيبرس نظام ولاية العهد لأول مرة في الدولة المملوكية ، فحصر السلطنة في أسرته ، إذ عهد لابنه محمد بركة خان بالسلطنة من بعده . وأهتم بيبرس بكثير من الإصلاحات الداخلية ، فنظم القضاء ، وولى قضاة من المذاهب الأربعة ، وأهتم بالزراعة وحفر الترع ، وأنشأ المدارس ، وأهتم بالجيش ولأسطول ، وبنى كثيراَ من المساجد أشهرها مسجد الظاهر ، وأهتم بالأخلاق فمنع بيع الخمور وأقفل الحانات ونفى من عرفوا بالمجون ، واشتهر بالعدل ، فكان يجلس للمظالم بنفسه. ونجح في إضعاف الصليبيين ، فانتزع منهم قيسارية وأرسوف وصفد ويافا وطرابلس وأنطاكية .
إحياء الخلافة العباسية في القاهرة
أسدل الستار على المأساة الأليمة التي دارت حوادثها في بغداد حين قتل هولاكو المغولي المستعصم آخر خلفاء العباسيين في بغداد سنة 656هـ / 1258م وغربت شمس الخلافة العباسية في بغداد لتشرق مرة أخرى في سماء القاهرة .
قتل هولاكو الخليفة المستعصم وولديه : أبا العباس أحمد ، وأبا الفضائل عبد الرحمن ، وأصبح العالم الإسلامي منذ 656هـ بدون خليفة ، وأوجد غروب شمس الخلافة في بغداد فراغاَ كبيراَ شعر به كل مسلم أو حاكم إسلامي . ولكن انشغال حكام المسلمين بصد المغول عن إحياء الخلافة . وكان أول من فكر في إحيائها الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق ، فقد بايع الأمير العباسي أبا العباس أحمد خليفة ليتخذه سلاحاَ يشهره في وجه المماليك في مصر .
ثم حدث أن قدم قطز إلى دمشق بعد انتصاره في عين جالوت ، ويروي السيوطي أن قطز بايع العباس أحمد بدمشق وأن الخليفة الجديد قاد جيشاَ صغيراَ من العرب هزم به المغول ، وأنه كان ينوي الرحيل إلى بيبرس في القاهرة ، فعدل عن الرحيل وأتجه إلى حلب حيث بايعه أميرها بالخلافة ولقبه ( الحاكم بأمر الله ) .
هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح التام ، فكان نور الخلافة ما يكاد يضئ حتى يخبو مرة أخرى . وما لبث أن أشرقت شمس الخلافة في سماء القاهرة . فقد حدث في سنة 1262م أن بعث الأمير علاء الدين طيبرس وأمير علاء الدين البندقداري إلى الظاهر بيبرس ، والسلطان المملوكي في القاهرة ، يخبرانه بقدوم أمير عباسي هو أحمد ابن الإمام الظاهر بن الإمام العباسي ، ومعه جماعة من عرب خفاجة يؤكدون صحة نسبه ، ورد بيبرس عليهما يوصيهما خيراَ بالأمير العباسي وصحبه ويأمرهما بإنفاذه إليه في الحال .
وبعد فترة وجيزة ، عقد بيبرس مجلساَ في قاعدة الجبل لإثبات نسب الإمام حضره الأمراء والفقهاء والقضاة ، وأكد العرب المرافقون للأمير لقاضي القضاة صحة نسبه ، وأنه أبن الخليفة الظاهر بأمر الله ابن الخليفة الناصر لدين الله . وقبل قاضي القضاة شهادتهم وحكم بصحة نسبه وبايعه بالخلافة. وتقدم الظاهر بيبرس إليه يبايعه بالخلافة أيضاَ . وأقبل الحاضرون بدورهم يبايعون الخليفة العباسي الجديد ، ولقبه المستنصر بلقب ( المستنصر بالله ) وأمر بأخذ البيعة له من عامة الناس ، ونقش أسم الخليفة على السكة إلى جانب أسمه ، والدعاء للخليفة في خطبة الجمعة قبل الدعاء للسلطان وفي يوم الجمعة وقف الخليفة الجديد يخطب في المصلين خطبة أطنب فيها في الثناء على بيبرس إحيائه الخلافة العباسية .
يرى ( توماس أرنولد ) أن الظاهر بيبرس أراد أن يكسب حكمه صبغة شرعية ، مثله في ذلك مثل أسلافه المماليك (الأرقاء الأتراك ) وإن اختلفت وسائلهم عما اتبعه بيبرس ، فقد كان أسلافه يدعون أنهم يحكمون مصر كأوصياء علي الأمراء الأيوبيين الأطفال ، فحكم أيبك مصر عوضا عن طفل أيوبي من أحفاد صلاح الدين ن ثم حكم قطز وصيا علي أمير طفل أخر . أما السلطان بيبرس فقد رأى أن يعتمد علي الخلافة العباسية في توطيد دعائم سلطته .
أما المؤرخ ( وايت ) فرأى أن بيبرس أراد من إحياء الخلافة العباسية أن يدعم سلطته فيصبغه بصبغة شرعية فيستطيع أن يمد سلطانه على الأراضي المقدسة في الحجاز . أما المؤرخ ( وليم ميور )[18] فيرى أن بيبرس أراد أن يقوي عرشه ضد أطماع أمراء المماليك ، ومن ناحية أخرى خوفاَ من محاولة الشيعة إحياء الدولة الفاطمية ، فقد رأى أنه لو نصب خليفة من السنيين فإنه يقضي على أي محاولة شيعية إذ يصبح حكمه في مصر شرعياَ .
ولكن رأي ميور بعيد إلى حد كبير عن الصواب إذ أننا لانجد ما يؤيده في المصادر العربية والإفرنجية ، فإنه على أثر المؤامرة التي دبرت (1194م ) لإرجاع الخلافة الفاطمية بمصر لم يسمع عن أي محاولة أخرى لإعادة الفاطميين في حكم مصر . ولعل ( ميور ) أعتقد أن طائفة الإسماعيلية التي كانت تقطن سورية وقتئذ والتي كانت على عداء مع بيبرس ربما تفكر في إعارة الخلافة الفاطمية ، ولكن هذه الطائفة لم يكن لديها من القوة ما يجعلها تعمل على تقويض سلطنة الظاهر بيبرس في مصر ، كما أن المصادر لم تذكر شيئاَ عن تفكيرهم في إحياء الخلافة الفاطمية .
ظل المماليك يشعرون دائماَ بأنهم مجروحون لأصلهم غير الحر ، ولأنهم اغتصبوا ملك مصر والشام من أصحاب البلاد الشرعيين فأرادوا بهذا التصرف أن يضفوا على أنفسهم نوعاَ من المهابة وعلى حكمهم لباساَ من الشرعية وعلو المكان . كما أن الظاهر بيبرس أراد أن يستمد من إقامة الخلافة العباسية في القاهرة دعامة يسند بها عرشه ، ولاسيما بعد أن أنكشف الدور الذي قام به في مقتل سلفه قظز .
أصبحت مصر مقر الخلافة وقلب الإسلام النابض ، وأصبح السلاطين المماليك مقر الخلافة والخلفاء ، ودعموا سلطتهم السياسية بسلطة روحية دينية وأصبح الخليفة العباسي ألعوبة في أيدي السلطان المملوكي يحركه كيفما شاء . فلم يكن الخليفة العباسي سوى مظهر خداعاَ جهد المماليك إيجاده ذراَ للرماد في العيون ، حتى يقضوا على أطماع الطامعين في السلطة في مصر ، ويمحوا الشكوك التي تقوم حول أحقيتهم في السلطة . ولكن قرت عيون عامة الناس إحياء الخلافة العباسية ، وتبارى الشعراء في تخليد هذا الحدث العظيم وأدى وجود الخلافة في مصر إلي نشاط كبير في الحياتين العلمية و الدنية .
طلب بيبرس من الخليفة أن يعطيه تفويضا شرعيا، وعقد اجتماعا لتلاوة هذا التفويض. وذكر الخليفة في نهاية التفويض انه يرجو أن يعيد بيبرس الخلافة العباسية الي مقرها في بغداد. وعلق المؤرخ (توماس أرنولد ) علي هذا التفويض الممنوح من الخليفة بقوله: ومن أهم مظاهر هذه الوثيقة ادعاء الخليفة السلطة علي بلاد لم تقدم للدولة العباسية الطاعة منذ قرون، وادعاؤه انه يملك السلطة العليا في العالم الإسلامي رغم عن انه لا يملك جنود ولا موارد مهما كان نوعها تحت تصرفه، كما انه من الغريب ان يتدخل الخليفة في تفاصيل الإدارة لجهاز منظم لحكومة مصر .
بدأ بيبرس ينفذ رغبة الخليفة في إعادة الخلافة الي بغداد، ليرضى الخليفة والمسلمين ويكسب المجد ، فأعد جيشاَ وصحبه الخليفة ووصلوا إلى دمشق . وهناك نصحه بعض أتباعه المخلصين بالعدول عن تنفيذ هذا المشروع ، وخوفوه من أن الخليفة عندما يتربع على عرش الخلافة في بغداد بعد القضاء على المغول سيعمل على القضاء على السلطنة المملوكية التي تسيطر على مصر والشام . وآمن بيبرس بصدق النصيحة ، فترك الخليفة يخترق الصحراء برفقة قوة من الأعراب والترك . وسار الخليفة في طريقه إلى بغداد ، وعند مدينة (عانه) أنضم إليه الأمير العباسي أبو العباس وسبعمائة فارس تركماني ، واتجهوا جميعاَ نحو (الحديثة) ثم (هيت) ففتحوها . وشعر المغول بخطورة الخليفة فبعثوا بجيش هزمه وأستشهد الخليفة وبعض الأمراء العباسيين ، ونجا الأمير أبو العباس أحمد وهو الذي قدم إلى مصر وأصبح لقبه (الحاكم بأمر الله) .