المنصور علي أبن السلطان أيبك
اختار أمراء المماليك المنصور علي أبن السلطان أيبك ليخلف أباه في السلطنة ، فثأر لأبيه من شجر الدر فقتلها بعد مصرع أبيه بأيام ثلاثة . ولما كان المنصور طفلاَ في الحادية عشر من عمره ، فقد تولى الأمير المملوكي سيف الدين قطز منصب ( أتابك السلطان ) وأصبح صاحب السلطة الحقيقية في الدولة المملوكية ، ثم ما لبث قطز أن أنتهز سقوط بغداد في أيدي المغول بقيادة هولاكو ، وبداية تهديد المغول لبلاد الشام ، حتى خلع السلطان الطفل وسجنه .
الملك المظفر قطز
قطز من الرق إلى الإمارة
تروي المصادر التاريخية أن الاسم الأصلي لسيف الدين قطز هو "محمود بن ممدود"، وأنه ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه الذي تصدى بعد أبيه لهجمات المغول، وحقق عدة انتصارات عليهم، واسترد منهم بعض المدن التي استولوا عليها، لكنه لم يجد عونًا من الدولة العباسية، فتركته يصارعهم دون أن تمد إليه يدًا، حتى نجحت جحافل المغول سنة (628هـ = 1231م) في القضاء على دولته التي كانت تقع في إقليم كرمان الحالي في جنوبي إيران، ثم لقي حتفه وحيدًا شريدًا على يد أحد الأكراد.
كان قطز من بين الأطفال الذين حملهم المغول إلى دمشق وباعوهم إلى تجار الرقيق، ومضت حياته مثل غيره من آلاف المماليك الذين حملت مواهب بعضهم إلى القمة وتولي السلطة، أو قد تقصر مواهبهم فتبلغ بهم إلى أمير خمسة، أو تعلو قليلاً فيصبح أمير طبلخانة.
وتقص علينا المصادر التاريخية أن قطز كان مملوكًا في "دمشق" ضمن مماليك ابن الزعيم، ثم انتقل إلى القاهرة، وأصبح من جملة مماليك عز الدين أيبك التركماني، وترقى عنده حتى صار أكبر مماليكه وأحبهم إليه وأقربهم إلى قلبه.
ظهوره على مسرح الأحداث:
بعد نهاية الحكم الأيوبي في مصر اتفقت كلمة المماليك على اختيار شجرة الدر سلطانة للبلاد، في سابقة لم تحدث في التاريخ الإسلامي إلا نادرًا، غير أن الظروف لم تكن مواتية لاستمرارها في السلطنة، على الرغم مما أبدته من مهارة وحزم في إدارة شؤون الدولة، فلم تجد بُدًّا من التنازل عن الحكم للأمير "عز الدين أيبك" أتابك العسكر الذي تزوجته وتلقب باسم الملك المعز.
ولم تسلس القيادة للسلطان الجديد في ظل ازدياد نفوذ زعيمهم "أقطاي" الذي تمادى في الاستخفاف بالملك المعز، ولا يظهر في مكان إلا وحوله رجاله ومماليكه في أبهة عظيمة كأنه ملك متوج، وبالغ في تحقيره للسلطان فلا يسميه إلا "أيبك"، وتطلعت نفسه إلى السلطنة، فاستشعر السلطان الخوف على عرشه بعد أن اشتد بغي أقطاي وكثرت مظالمه واستهانته بالرعية، فعزم على التخلص منه، وأعد خطة لذلك اشترك في تنفيذها أكبر مماليكه (قطز)، فكان ذلك أول ظهور له على صفحات التاريخ. ومن تلك اللحظة بدأ يشق طريقه نحو المقدمة.
الطريق إلى السلطنة :
هيأت الأقدار الطريق لقطز لكي يصل إلى الحكم، فلم يكد يهنأ الملك المعز بالتخلص من غريمه أيبك ويقبض على بعض المماليك البحرية ويجبر بعضهم على الفرار من مصر، حتى دب صراع بينه وبين زوجته شجرة الدر، انتهى بمقتلهما، وتولى "نور الدين علي بن المعز أيبك" السلطنة، لكنه كان صبيًا يلهو ولا يصلح لمباشرة الحكم وتحمل المسئولية.
وأصبحت مقاليد البلاد في يد "سيف الدين قطز" الذي بدأ نجمه في الظهور، وقام بنشر الأمن في البلاد والقضاء على المحاولات الفاشلة للأيوبيين لاسترداد مصر من أيدي المماليك، فزاد ذلك من قوة إحكامه على البلاد.
ثم جاءت اللحظة الحاسمة ليقوم قطز بما ادخره له القدر من الشرف العظيم وتخليد اسمه بين كبار القادة والفاتحين، فكانت الأخبار السيئة تتوالى على القاهرة بسقوط بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله، وتحرك جحافل المغول نحو الشام التي تساقطت مدنها الكبرى في يد هولاكو. كانت هذه الأنباء تزيد القلق في مصر التي كانت تخشى عاقبة مصير الشام، في الوقت الذي كان فيه السلطان الصبي غافلاً، يقضي وقته في ركوب الحمير والتنزه في القلعة، ويلعب بالحمام مع الخدم!.
من هم المغول؟
قامت الدولة المغولية في عصر جنكيز خان في وسط آسيا ، الذي أنتزع بعض أجزاء من إمبراطورية الصين كما أستولى على بعض الأقطار الإسلامية المجاورة . ثم أصطدم المغول بالدولة الخوارزمية وقضوا عليها كما قضوا على طائفة الإسماعلية وأستولوا على إيران . ثم نجح المغول في عصر هولاكو في القضاء على الخلافة العباسية وفتح بغداد سنة 656هـ ، وبدأ المغول زحفهم غرباَ إلى الشام ثم إلى مصر .
كان المغول ينزلون بما يستولون عليه من مدن التخريب ، وأرتكبوا كثيراَ من الفظائع والمذابح ، مما ألقى الرعب في قلوب الناس . ولذا آثر الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب مسالمة المغول ، بل أستنجد بهم ضد الدولة المملوكية . وتوجه بعض المماليك إلى الملك المغيث عمر أمير الكرك وطلبوا منه أن يزحف إلى مصر للقضاء على حكم أقطاي ، وليوحد القوى الإسلامية أمام الغزو المغولي ، ولكن قطز نجح في هزيمته فأسرع بالهرب إلى الكرك ، وخلع قطز السلطان الطفل – كما سبق أن ذكرت – وأعلن نفسه سلطاناَ .
بدأ هولاكو غزوه لبلاد الشام ، وأستولى على بعض مدنها ، وأضطر الناصر يوسف أمير حلب إلى أن يبعث برسله إلى المغيث أمير الكرك وإلى قطز سلطان مصر يطلب منهما أن يوحدوا جميعاَ جهودهم ضد المغول ، وأستجابا لندائه ، وقدم بيبرس ومماليكه على قطز وأعلن تأييده له واستعدادهم جميعاَ لمعاونته في صد المغول .
أخذ قطز يحشد جيوشه ، ثم خرج إلى الصالحية على حدود مصر ، وتحالف هولاكو مع ملك أرمينيا الصغرى ومع أمير أنطاكية الصليبي ، وأخذ يستعد للزحف إلى مصر ، ولكن هولاكو أضطر إلى العودة إلى عاصمة الدولة لوفاة منجك خان المغول الأعظم ولاختيار الخان الجديد ، وولى بدله كتبغا ، الذي نجح في فتح دمشق وحاول محالفة الصليبيين في عكا ، ولكنهم آثروا الحياد .
الاجتماع المصيري
أفاق الملك الناصر صاحب حلب ودمشق على الحقيقة المرة، وأدرك أهداف المغول، وهو الذي راسلهم ليضع يده في أيديهم ليساعدوه في استرداد مصر، فبعث بـ"ابن العديم" المؤرخ المعروف إلى مصر ليستنجد بعساكرها. فلما قدم إلى القاهرة عقد مجلسًا بالقلعة حضره السلطان الصبي وكبار أهل الرأي من الفقهاء والقضاة وفي مقدمتهم الشيخ "العز بن عبد السلام"، فسأله الحاضرون من الأمراء عن أخذ الأموال من الناس لإنفاقها على الجنود، فأجابهم بقوله: "إذ لم يبق شيء في بيت المال، وأنفقتم ما عندكم من الذهب والنفائس، وساويتم العامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها – ساغ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء"، واتفق الحاضرون على ضرورة المقاومة والجهاد.
لم يعد أمام قطز بعد أن ازداد خطر المغول، وأصبحوا على مقربة من مصر سوى خلع السلطان الصبي، فانتهز فرصة خروج الأمراء إلى الصيد في منطقة العباسية بالشرقية، وقبض على الملك المنصور واعتقله بالقلعة هو وأسرته في (24 من ذي القعدة 657هـ = 12 من نوفمبر 1259م)، وأعلن نفسه سلطانًا، وبدأ في ترتيب أوضاع السلطنة، واسترضى كبار الأمراء بأنه لم يقدم على خلع السلطان الصبي إلا لقتال المغول؛ لأن هذا الأمر لا يصلح بغير سلطان قوي، ومنّاهم بأن الأمر لهم يختارون من يشاءون بعد تحقيق النصر على العدو، وبدأ في اختيار أركان دولته وتوطيد دعائم حكمه استعدادًا للقاء المغول.
قتل رسل المغول
وبعد توليه السلطنة بقليل جاء رسل المغول يحملون رسائل التهديد والوعيد، ولم يكن أمام قطز: إما التسليم -مثلما فعل غيره من حكام الشام- أو النهوض بمسئوليته التاريخية تجاه هذا الخطر الداهم الذي ألقى الفزع والهلع في القلوب، فجمع قطز الأمراء وشاورهم في الأمر فاتفقوا على قتل رسل المغول؛ قطعًا لتردد البعض في الخروج للقتال، وإشعارا للعدو بالقوة والتصميم على القتال، وبعد قتل الرسل بدأ السلطان في تحليف الأمراء الذين اختارهم، وأمر بأن يخرج الجيش إلى الصالحية، ونودي في القاهرة وسائر إقليم مصر بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام.
وفي هذه الأثناء كان الأمير بيبرس البندقداري قد قدم إلى مصر بعد أن طلب الأمان من الملك المظفر قطز، ووضع نفسه تحت تصرفه في جهاده ضد المغول، فأنزله السلطان بدار الوزارة، وأحسن معاملته، وأقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها.
اللقاء الحاسم في عين جالوت
سار السلطان قطز بجيوشه بعد أن هيأها للجهاد، وبذل الأرواح في سبيل نصرة الله؛ فوصل غزة، ثم اتخذ طريق الساحل متجهًا نحو بحيرة طبرية، والتقى بالمغول، وكانوا تحت قيادة "كيتوبوقا" (كتبغا) في معركة فاصلة في صباح يوم الجمعة الموافق (25 من رمضان 658هـ = 3 من سبتمبر 1260) عند عين جالوت من أرض فلسطين بين بيسان ونابلس، وانتصر المسلمون انتصارا هائلاً بعد أن تردد النصر بين الفريقين، لكن صيحة السلطان التي عمت أرجاء المكان "وا إسلاماه" كان لها فعل السحر، فثبتت القلوب وصبر الرجال، حتى جاء النصر وزهق الباطل.
وأعاد هذا الظفر الثقة في نفوس المسلمين بعدما ضاعت تحت سنابك الخيل، وظن الناس أن المغول قوم لا يُقهرون، وكان نقطة تحول في الصراع المغولي الإسلامي، فلأول مرة منذ وقت طويل يلقى المغول هزيمة ساحقة أوقفت زحفهم، وأنقذت العالم الإسلامي والحضارة الإنسانية من خطر محقق.
وكان من شأن هذا النصر أن فر المغول من دمشق وبقية بلاد الشام إلى ما وراء نهر الفرات، ودخل السلطان قطز دمشق في آخر شهر رمضان وأقام بقلعتها، وفي غضون أسابيع قليلة تمكن من السيطرة على سائر بلاد الشام، وأقيمت له الخطبة في مساجد المدن الكبرى حتى حلب ومدن الفرات في أعالي بلاد الشام، وتمكن من إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد، وبعد أن اطمأن إلى ما فعل قرر العودة إلى مصر في (26 من شوال 658هـ = 4 من أكتوبر 1260م).
النهاية الأليمة
ولما بلغ السلطان قطز إلى بلدة "القصير" من أرض الشرقية بمصر بقي بها مع بعض خواصه، على حين رحل بقية الجيش إلى الصالحية، وضربت للسلطان خيمته، وهناك دبرت مؤامرة لقتله نفذها شركاؤه في النصر، وكان الأمير بيبرس قد بدأ يتنكر للسلطان ويضمر له السوء، وأشعل زملاؤه نار الحقد في قلبه، فعزم على قتل السلطان، ووجد منهم عونًا ومؤازرة، فانتهزوا فرصة تعقب السلطان لأرنب يريد صيده، فابتعد عن حرسه ورجاله، فتعقبه المتآمرون حتى لم يبق معه غيرهم، وعندئذ تقدم بيبرس ليطلب من السلطان امرأة من سبى المغول فأجابه إلى ما طلب، ثم تقدم بيبرس ليقبل يد السلطان شاكرًا فضله، وكان ذلك إشارة بينه وبين الأمراء، ولم يكد السلطان قطز يمد يده حتى قبض عليها بيبرس بشدة ليحول بينه وبين الحركة، في حين هوى عليه بقية الأمراء بسيوفهم حتى أجهزوا عليه، وانتهت بذلك حياة بطل عين جالوت.
وذكر المؤرخون أسبابًا متعددة لإقدام الأمير بيبرس وزملائه على هذه الفعلة الشنعاء، فيقولون: إن بيبرس طلب من السلطان قطز أن يوليه نيابة حلب فلم يوافق، فأضمر ذلك في نفسه. ويذهب بعضهم إلى أن وعيد السلطان لهم وتهديدهم بعد أن حقق النصر وثبّت أقدامه في السلطة كان سببًا في إضمارهم السوء له وعزمهم على التخلص منه قبل أن يتخلص هو منهم، وأيًا ما كانت الأسباب فإن السلطان لقي حتفه بيد الغدر والاغتيال، وقُتل وهو يحمل فوق رأسه أكاليل النصر.
أما من ناحية دولة المماليك الناشئة ، فأدى أنتصار قطز في عين جالوت إلى أكتسابها قوة دعمت مركزها في العالم الإسلامي .
حقيقة أن موجة التوسع المغولي قاربت نهايتها في غرب آسيا بوصولها إلى الشام وفلسطين ، بعد أن قطع المغول آلاف الأميال منذ اندفاعهم من جوف القارة الآسيوية ، فكان لابد لهذه الموجة أن ينتهي أمرها إلى التوقف تلقائياَ لكن هذه الخاتمة الطبيعية لم تتضح للمعاصرين الذين لمسوا أمراَ واحدا هو أن هزيمة المغول جاءت على أيدي سلطان من المماليك . وهكذا أستمد المماليك من هذا النصر هيبة وقوة ، بعد أن أثبتوا صلاحيتهم للحكم ومقدرتهم في الدفاع عن الشام ومصر ضد أكبر خطر هدد منطقة الشرق الأدني في القرن الثالث عشر . كان قطز قد وعد الأمير بيبرس البندقداري أن يمنحه إمارة حلب إذا أبلى بلاءَ حسناَ في قتال المغول ، وطالب بيبرس بتنفيذ الوعد بعد إنتصاره في عين جالوت ، ولكن قطز تناسى وعده مما أغضب بيبرس ومماليكه ولذا تآمروا على قتله أثناء عودته إلى مصر في ذي القعدة سنة 658 هـ .