قيام دولة المماليك البحرية في مصر
لم يكن شراء المماليك والاعتماد عليهم في الحكم والحرب بدعة أبتدعها الأيوبيون ، فقد اتبع الطولونيون والإخشيديون والفاطميون نفس السياسة ، ولكن الأيوبيون هم الذين أسرفوا في شراء المماليك الأتراك ، وبنوا لهم ثكنات في جزيرة الروضة ، فاكتسبوا أسم المماليك البحرية ، وولوهم مناصب الحكومة ، وأستفحل أمرهم حتى تمكنوا من انتزاع الحكم من الدولة الأيوبية وإقامة دولة مملوكية جديدة .
كانت الغالبية العظمى من جماعات المماليك الذين جلبهم الأيوبيين وسلاطين المماليك من بعدهم إلى مصر ، تأتي من شبه جزيرة القرم وبلاد القوقاز والقفجاق وآسيا الصغرى وفارس وتركستان وبلاد ما وراء النهر ، فكانوا خليطاَ من الأتراك والشراكسة والروم والروس والأكراد ، فضلاَ عن أقلية من مختلف البلاد الأوربية . وكان المماليك فيما بينهم ينقسمون إلى أحزاب متطاحنة ، ولكن هذا الانقسام الداخلي لم يؤثر على وحدتهم كطائفة أو مجموعة إزاء العالم الخارجي الذي كانوا يواجهونه كعصبة واحدة ، مما يفسر لنا سر قوتهم وانتصاراتهم الحربية إزاء عدوهم المشترك .[3]
عز الدين أيبك – أول سلاطين الدولة المملوكية
بحثنا في المقدمة عن تحديد موعد سقوط الدولة الأيوبية وقيام الدولة المملوكية ، ورأينا أن شجر الدر آخر حكام الدولة الأيوبية وأن عز الدين أيبك هو أول الحكام المماليك . ولم يكن أيبك أعظم مماليك مصر ، بل كان هناك من يفوقونه شخصية وقوة ، ولكنهم تنازعوا على السلطنة ورأوا أن اختيار أيبك يخلصهم من الصراع والنزاع ، فقد كان أقلهم شأناَ .[4]
من هي شجرة الدر ؟
هي شجرة الدر (وفي بعض المصادر شجر الدر) , أم خليل, جارية تركية حسناء, اشتراها الملك الصالح نجم الدين أيوب ثم أعتقها وتزوجها واستولدها ولدا سماه خليلا, وعرفت به, فهي أم خليل. كانت حظية عنده لجمالها وذكائها وقد شاطرته ما لاقى من محن. مات ولدها صغيرا, فظلت تتكنى به. كانت مع زوجها لما تولى بلاد الشام ولما انتقل إلى مصر وتولى السلطنة كانت في بعض الأحيان تدير أمور الدولة عند غيابه, وكانت كما يقول ابن أياس: ذات عقل وحزم, كاتبة قارئة, لها معرفة تامة بأحوال المملكة, وقد نالت من العز والرفعة ما لم تنله امرأة قبلها ولا بعدها, وكانت تكتب خطا يشبه خط زوجها الملك الصالح, فكانت تعلم على التواقيع ولما توفي الملك الصالح نجم الدين سنة 647هـ بالمنصورة, والمعارك ناشبة بين جيشه والصليبيين, كانت معه فأخفت خبر موته لكي لا يفزع المحاربون من المسلمين, واستمر كل شيء كما كان, فكان السماط يمد كل يوم والأمراء في الخدمة فإذا سئلت عنه قالت: السلطان مريض ما يصل إليه أحد وأرسلت بعض رجالها إلى ابنه (تورانشاه) وكان صاحب حصن كيفا فحضر وتسلطن بعد والده وانتقلت شجرة الدر من القاهرة إلى بيت المقدس فبعث تورانشاه يهددها ويطالبها بما كان عند أبيه من مال وجوهر فخافت ودبرت قتله ففتله بعض مماليكها وتقدمت للسلطنة واختارها أمراء المماليك وتلقبت بعصمة الدين وضربت السكة باسمها وخطب الخطباء لها على المنابر بعد الدعاء للخليفة العباسي المستعصم بالله أقامت عز الدين أيبك وزير زوجها وزيرا لها, ثم تزوجته ونزلت له عن السلطة واحتفظت بالسيطرة عليه, وكان متزوجا من زوجة أولى تدعى (أم علي) فألزمته أن يطلقها فطلقها. كانت شجرة الدر شديدة الغيرة على زوجها. بلغها أنه يريد أن يخطب بنت الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ, صاحب الموصل وأنه عازم على التزوج منها, فرأت أنه إذا فعل ذلك فسوف يتخلى عنها فتفقد ما بنته من مجد وسؤدد. وأخذت تفكر في الخلاص منه, فأرسلت إلى الملك الناصر صلاح الدين, صاحب حلب ودمشق, برسالة أسرت فيها إليه أنها تريد قتل المعز أيبك والتزوج منه وتمليكه عرش مصر فلم يجبها وظن أن في الأمر خدعة, وعلم المعز أيبك بذلك فصمم على قتلها قبل أن تقضي عليه, وأخذ كل من الزوجين يأتمر بالآخر ويضع الخطة للقضاء عليه, وانتهى الأمر بانتصار المرأة في ميدانها, فقد أخذت ترق له وتتلطف به, وفي ليلة دعته إلى زيارتها في قصرها بالقلعة فاستجاب لدعوتها ودخل الحمام وكانت أعدت خمسة غلمان لقتله فدخلوا عليه وقتلوه في الحمام. وكانت تعتمد في حمايتها مما أقدمت عليه على المماليك البحرية, وحاولت اختيار خلف للمعز أيبك من المماليك فامتنع ذلك عليها وكانت الغلبة للماليك المعزية (مماليك المعز أيبك) فولوا ابنه عليا خلفا لأبيه وتلقب بالملك المنصور, ولم يلبث أن انكشفت الحقيقة باعتراف الغلمان الذين أقدموا على قتل المعز أيبك فأعدموا وقبض عليها وصبت امرأة المعز أيبك الأولى وأم ابنه علي حقدها عليها, وكانت تتحرق شوقا للانتقام منها, فأمرت جواريها أن يضربنها بالقباقيب حتى تموت, ففعلن وماتت وألقيت من سور القلعة إلى الخندق ثم دفنت بعد أيام في تربتها. يقول ابن تغري بردي إن شجرة الدر لما تيقنت أنها مقتولة جمعت جواهرها فسحقتها في الهاون لئلا يأخذها ابن زوجها الملك المنصور. كانت مدة سلطنتها ثلاثة أشهر وبضعة أيام, وتعتبر شجرة الدر أول ملكة مسلمة جلست على عرش مملكة إسلامية على الرغم من سخط الفقهاء على توليها السلطنة.[5]
ومن هو الملك عز الدين أيبك
هو السلطان الملك المعز عز الدين أيبك بن عبد الله الصالحي النجمي التركماني. أصله من مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب وإليه نسبته. أول ملوك المماليك بالديار المصرية ممن مسهم الرق. لما قتل الملك تورانشاه ابن اللك الصالح نجم الدين سنة 648هـ اتفق أمراء التركمان على سلطنة صبي من بني أيوب يدعى موسى ابن الملك الناصر يوسف ابن الملك المسعود ابن الملك الكامل وكان قاصرا لم يبلغ العاشرة من عمره فولوه وتلقب بلقب مظفر الدين وجعلوا الأمير عز الدين أيبك أتابكا له (نائبا) . ولما تمكن أيبك من السلطة خلع السلطان الصغير مظفر الدين وتزوج شجرة الدر التي تسلطنت وجعلته وزيرا لها ثم تزوجته وأقام معها مدة ثم علمت أنه يريد أن يتزوج من بنت بدر الدين لؤلؤ, صاحب الموصل فدبرت قتله وقتلته بالحمام بمعونة جماعة من خدمها. كان عز الدين أيبك ملكا شجاعا, كريما عاقلا, أطلق كثيرا من الأموال حتى رضي الناس بسلطان مسه الرق, أما أهل مصر فلم يرضوا بذلك إلى أن مات وكانوا يسمعونه ما يكره. على أن المقريزي يقول عنه إنه قتل خلقا كثيرا ليوقع مهابته في القلوب وأحدث مظالم ومصادرات عمل بها من بعده. كانت مدة سلطنته سبع سنين ومات وقد ناهز الستين سنة من العمر.[6]
لم يركن الأيوبيين إلى الإستكانة إزاء ضياع السلطة من أيديهم ، وانتقال الحكم إلى المماليك ، فبدأ كفاحهم من أجل بقاء الدولة الأيوبية ، وخاصة بعد تنازل شجر الدر عن السلطة لأيبك ، فقد اعتبروه تنازلاَ من سلطانة أيوبية إلى قائد مملوكي . وحاول أيبك تسكين خواطرهم ، فأشرك أمير أيوبي في السادسة من عمره معه في السلطنة ، ولكن الأيوبيين أدركوا الخدعة ، فأعلن أيبك أن مصر تابعة للدولة العباسية وأنه يحكم مصر بالنيابة عن الخليفة العباسي في بغداد . وخرج الأيوبيون إلى الشام يستعدون للزحف إلى القاهرة . وبعث أيبك قائده أقطاي لقتالهم ، فهزمهم عند الصالحية ، وفر الناصر الأيوبي ، وتدخل الخليفة العباسي بين أيبك والناصر وتمكن من عقد الصلح بينهما ، فقد رأى الخليفة أن يتحد الزعماء المسلمون إزاء تهديد المغول للعالم الإسلامي ، واتفقا على " أن يكون للمصريين إلى الأردن وللناصر ما وراء ذلك ، وأن يدخل فيما للمصريين غزة والقدس والساحل كله "[7] .
وتعرض أيبك بعد ذلك لثورة الأعراب الذين أغضبهم استبداد المماليك الأتراك بالحكم ، واعتبروا أنفسهم أحق منهم بالحكم ، ووصفوا المماليك أنهم " خوارج على البلاد "[8]. وأنتهز أيبك فرصة ازدياد خطر المغول ، فخلع الأمير الأيوبي الطفل وسجنه في القلعة ، ثم بعث أقطاي على رأس جيش فأخمد ثورة الأعراب .
ثم بدأ الصراع بين أيبك وأقطاي ، فقد شعر أقطاي بفضله على أيبك ، وطمع في الاستبداد بالسلطة ، واشتد النزاع بين ممالك أيبك وأقطاي ، وكلهم من الممالك البحرية ، وعانى المصريون من نتائج هذا الصراع فقد حل بهم " بلاء لا يوصف ما بين قتل ونهب وسبي بحيث لو ملك الفرنج بلاد مصر ما زادوا في الفساد على ما فعله البحرية !!" [9] . وأنتهى الصراع بتدبير أيبك مؤامرة انتهت بمصرع أقطاي غدراَ ، وهرب رجاله إلى بلاد الشام . ورأى أيبك أن يتحالف مع أمير الموصل ليستعين به في تدعيم حكمه ، وعرض عليه أن يتزوج من أبنته ، وغضبت شجر الدر لتنكر أيبك لها وعزمه على الزواج من غيرها ، رغم ما قدمته له من معاونات ، فأقدمت على قتله ، وعرضت السلطنة على بعض الأمراء فرفضوا أن يتولوها في هذه الظروف الحرجة .