عهد دول الطوائف ( 422-897هـ= 1031- 1086م )
لم تكد الخلافة الأموية تسقط حتى استقل كل بما امتلكته يده، فأصبح لكل مدينة أو مقاطعة أمير مستقل، فالبربر بالجنوب والصقالبة بالشرق، وأما البقية الباقية فقد ذهبت إلى أيدي محدثي النعم أو بعض الأسر القديمة، وقد حكم في هذه الفترة نحو عشرين أسرة مستقلة، في عشرين مدينة أو مقاطعة، ومن أشهر ملوك الطوائف:
- بنو عبَّاد بأشبيلية
- بنو حمود الأدارسة بمالقة والجزيرة
- بنو زيري بغرناطة
- بنو هود بسرقسطة.
- بنو ذي النون بطليطلة وهم أقوى هؤلاء الملوك
وقد أحسن بعض هؤلاء الملوك، وإن كان أكثرهم عتاة جبارين، غير أنهم كانوا مثقفين محبين للعلم، وكانت قصورهم مثابة للشعراء والأدباء والعلماء، وقد عاش في هذه الفترة وفي بلاط هؤلاء الملوك كثير من العلماء الكبار والأدباء العظام ممن تفخر بهم الأندلس، كما كان من بين هؤلاء الملوك أنفسهم من كان عالمًا أديبًا شاعرًا.
المسلمون يدمرونأنفسهم بأنفسهم
كان ألفونسو السادس قد وحَّد تحت إمارته استوريا وليون وقشتالة، ورأى أن يستفيد من الفوضى في الأندلس، خاصة أن أكثر ملوك الطوائف كانوا يتقربون إلى ألفونسو بالعطايا والإتاوات، يطلبون حمايته، فكان ألفونسو يجمع منهم ما يعد به العدة للقضاء عليهم وهم لا يشعرون.
وكان ألفونسو ينتهز كل فرصة ليستولي على الحصون والقلاع، واحدة إثر الأخرى، حتى وثبة وثبة سنة 478هـ استولى فيها على طليطلة، ووضع حامية تزيد على أثنى عشر ألفًا في حصن ليط في وسط الأندلس، ومن هذا الحصن كانت تخرج جنوده لتغير وتنهب
ومن الأمور التي تدعو إلى العزة في ذلك الوقت رغم الأحوال التي وصلت إليها الأندلس في عهد ملوك الطوائف، ذلك الموقف الذي قام به المتوكل بن الأفطس حاكم بطليوس ذلك الحاكم الوحيد الذي رفض أن يدفع الجزية إلى ملك قشتالة الذي أرسل إليه يهدده، ويطلب منه الجزية مقابل أن يتركه دون قتال، وردَّ عليه في رسالة قوية تدل على شجاعته وهذا نصها:
"وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويلدد بجنوده الوافرة وأحواله المتظافرة، ولو علم أن لله جنودًا أعز بهم كلمة الإسلام وأظهر بهم دين نبينًا محمد عليه السلام أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون، بالتقوى يعرفون وفي التوبة يتضرعون، ولئن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين"
"أما تعييرك للمسلمين فيما وهي من أحوالهم فبالذنوب المركوبة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك علمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تنجزعه فلم تزل تذيقها من الحمام ضروب الآلام شؤمًا تراه وتسمعه وإذا المال تتورعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد كل عام عليه، وأما نحن إن قلت أعدادنا وعدم من المخلوقين استمدادنا فما بيننا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه إلا السيوف تشهد بحدها رقاب قومك وجلاد تبصره في ليلك ويومك، وبالله تعالى وملائكته المسومين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنتين، نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت وفرج يفتر بما مددت ويقطع فيما أعددت"
يئس ملوك الطوائف أن يتوحدوا، فتوجه نظرهم إلى دولة المرابطين بأفريقية، ولقد توجس بعض مشيري ابن عباد ملك أشبيلية وقرطبة من هذه الدعوة خيفة، ولكنه أسكتهم بقوله: "لأن أكون راعي جمال في صحراء أفريقية خير من أرعى الخنازير في قشتالة".
كان المعتمد بن عباد آخر ملوك بني عباد وكان عربيًا شاعرًا، ولكنه كان ذليلاً لألفونسو حيث كان يدفع له كغيره حتى طلب منه ألفونسو يومًا أن يسمح لزوجته أن تدخل جامع قرطبة لتلد فيه حسب إشارة القسيسين والأساقفة، فلم يتمالك ابن عباد نفسه فقتل حامل الرسالة لوقاحتها، وأمر به فصُلِبَ منكوسًا بقرطبة، وأمر بمن معه من الفرسان فقتلوا، وبلغ الخبر ألفونسو فأقسم ليغزونه بأشبيلية ، فأعدَّ ألفونسو لذلك جيشين زحف أحدهم إلى كورة باجة ثم أشبيلية، وقاد الجيش الثاني بنفسه ثم لحق به الجيش الأول، ونزل بهما أمام قصر ابن عباد على الضفة الأخرى من نهر الوادي الكبير، وكتب إلى ابن عباد يتهكم: "لقد كثر بطول مقامي في مجلسي الذباب، واشتد على الحر، فأتحفني من قصرك بمروحة أُرَوِّح بها على نفسي، وأطرد الذباب عن وجهي".
فوقع له ابن عباد على الرسالة بخطه قائلاً: "قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية في أيدي الجيوش المرابطية، تُرِيح منك لا تُرَوِّح عليك، إن شاء الله!"؛ فلما تُرْجِمَ لألفونسو توقيع ابن عباد في الجواب، أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببالٍ.
وابن عباد يشير بالجلود اللمطية إلى الاستعانة بالمرابطين في شمال أفريقية
تاشفين ونهاية دولة المرابطين
تاشفين بن علي (533 – 539 هـ = 1138- 1144م) ونهاية دولة المرابطين في المغرب والأندلس.
خلَّف علي بن يوسف مُلكًا عريضًا حافلاً بالمشاكل والمصاعب لابنه تاشفين، وكان شابًا حسن الاستعداد، ولكن الظروف التي تولى فيها كانت عسيرة تحتاج إلى رجل ذي تجربة أوسع، ثم إن محمد بن تومرت استعمل أساليب غاية في القسوة والبعد عن الأخلاق في محاربة المرابطين معتمدًا على قبائل أكبر وأَضخم من قبائلهم.
وقد اضطر المرابطون إلى توجيه كل قواهم إلى صراع الموحدين في المغرب دفاعًا عن كيانهم وبهذا حرم الأندلس من جهودهم فيه، والأغرب من ذلك قيام نفر من زعماء أهل الأندلس بالثورة على المرابطين حاسبين أن توقف النصارى عن مهاجمة البلاد الإسلامية سيستمر إذا غاب المرابطون فلم تنفعهم ثوراتهم وأسرعوا ببلادهم إلى الزوال.
وبعد تاشفين بن علي تولى ابنه إسحاق بن تاشفين وكان صبيًا، وفي أيامه تمكن عبد المؤمن بن علي أول خلفاء الموحدين من القضاء على دولة المرابطين ودخول مراكش فلم يدم حكم إسحاق أكثر من عام
ولكن لماذا تسقط دولة مثل دولة المرابطين بعد أن وصلت إلى تلك القوة وأنقذت الأندلس مما كانت عليه؟
أسباب سقوط دولة المرابطين
1- ظهور روح الدعة والانغماس في الملذات والشهوات عند حكام المرابطين وأمرائهم في أواخر عصر علي بن يوسف، وكان للمجتمع الأندلسي تأثير لا ينكر في قادة وحكام دولة المرابطين الذين استجابوا لنزوات شهواتهم وانغمسوا في الحياة الدنيا، فتحقق قول الله تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" [ الإسراء: 16].
2- ظهور السفور والاختلاط بين النساء والرجال، فقد بدأت دولة المرابطين في آخر عهد الأمير علي بن يوسف تفقد طهرها وصفاءها الذي اتصف به جيلهم الأول، مما جعل الرعية المسلمة تتذمر من هذا الانحراف والفساد، وتستجيب لدعوة محمد بن تومرت الذي أظهر نفسه للناس بالزاهد والناسك والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
3- انحراف نظام الحكم عن نظام الشورى إلى الوراثي الذي سبب نزاعًا عنيفًا على منصب ولاية العهد بين أولاد علي بن يوسف، كما تطلع مجموعة من الأمراء إلى منصب الأمير علي ونازعوه في سلطانه مما سبب تمزقًا داخليًا أدى إلى إضعاف الوحدة السياسية وإسقاط هيبة الدولة المرابطية.
4- الضيق الفكري الذي أصاب فقهاء المرابطين وحجرهم على أفكار الناس، ومحاولة إلزامهم بمذهب الإمام مالك وحده، وعملوا على منع بقية المذاهب السنية تعصبًا لمذهبهم، وكان لفقهاء المالكية نفوذ كبير مما جعلهم يوسعون تعصبهم وتحجرهم الفكري، بالإضافة إلى استغلال بعض الفقهاء نفوذهم من أجل جمع المال، وامتلاك الأراضي وعاشوا حياة البذخ والرفاهية المفرطة، وكان ذلك في إيجاد ردة فعل عنيفة عند أفراد المجتمع المرابطي.
وقد انبرى الشعراء في تصوير حال الفقهاء في تلك الفترة، فقال أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن البني:
أهل الربا لبستم ناموسكم كالذئب أدلج في الظلام العاتمفملكتم الدنيا بمذهب مالك وقسمتم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب الدواب بأشهب وبأصبغ صبغت لكم في العالم
5- ومن أهم العوامل التي أسقطت دولة المرابطين فقدها لكثير من قياداتها وعلمائها العظام أمثال سير بن أبي بكر، ومحمد بن مزدلي، ومحمد بن فاطمة، ومحمد بن الحاج، وأبي إسحاق بن دانية، وأبي بكر بن واسينو، فمن لم يستشهد من كبار الدولة أدركه الموت الطبيعي، ولم يستطيع ذلك الجيل أن يغرس المبادئ والقيم لمن بعدهم.
6- أيضًا من الأمور التي أنهكت دولة المرابطين أنها مرت بأزمة اقتصادية حادة نتيجة لانحباس المطر عدة سنوات، وحلول الجفاف والقحط بالأندلس والمغرب، وزاد من حدة الأزمة الاقتصادية إن أسراب الجراد هاجمت ما بقى من الأخضر على وجه البلاد مما هيأ الظروف لانتشار مختلف الأوبئة بين كثير من السكان، ووقعت هذه الأزمة في الفترة الواقعة ما بين أعوام 524هـ- 530هـ.
7- ومن الأسباب الرئيسية في زوال دولة المرابطين صدامها المسلح مع جيوش الموحدين
موقعة العقاب وبداية النهاية لدولة الموحدين
في سنة 609هـ أعلن الصليبيون حملة واسعة النطاق ضد المسلمين بالأندلس، فجاءهم المتطوعون من فرنسا وألمانيا وإنجلترا وإيطاليا، وقاد الناصر ابن المنصور بالله جيش المسلمين، وكان عدته كما تقول بعض الروايات حوالي نصف مليون من المحاربين، ولما لم يكن الناصر بارعًا في القيادة، فدارت الدائرة عليه وفقد معظم جيشه، بل إن هذه المعركة كانت نهاية لدولة الموحدين في الأندلس، فقد سقطت المدن الإسبانية مدينة إثر أخرى في يد الصليبين، وعم الشغب بين قبائل البربر في إفريقية، وتوالت وثبات المنافسين للموحدين فيها فتبددت قوتهم وطمع فيهم أمراء الأندلس، فأزاحوهم عن الأندلس سنة 633هـ وأعلن ابن هود نفسه حاكمًا لأكثر بلاد الجنوب، ولما قضى نحبه تحول حكم الأندلس إلى بني نصر أمراء غرناطة سنة 620هـ
ولكن ما السبب وراء هزيمة المسلمين في هذه المعركة رغم ما وصلوا إليه من قوة؟
يكمن ذلك في عدة أسباب منها: الإعجاب بالكثرة، وكأن غزوة حنين تتكرر بعد حوالي ستة قرون في الأندلس، وأيضًا ضعف شخصية الناصر لدين الله كان من أهم أسباب الهزيمة، بالإضافة إلى إصرار ملك قشتالة على الانتقام من هزيمة الأرك، وأيضًا الثورات التي حدثت في المغرب مع بني غانية جعلت الموحدين ينفقون فيها نفائس أموالهم ويقدمون خيرة رجالهم
أسباب سقوط دولة الموحدين
1- ظلمهم الفظيع للمرابطين وسفكهم للدماء واعتداؤهم على الأموال وسبيهم للنساء بدون وجه حق، فمضت فيهم سُنَّة الله في الظلم والظالمين.
2- من أسباب السقوط ثورة بني غانية وهم من بقايا المرابطين، حيث قامت هذه الثورة على أسس فكرية ناهضت الأسس التي قامت عليها دولة الموحدين.
3- ثورات الأعراب المتتالية؛ حيث إن قبائل بني سليم وبني هلال التي سكنت إفريقية والمغرب الأوسط وبعد ذلك المغرب الأقصى لا تنظر إلا لمصالحها، فأحيانًا تتحالف مع بني غانية ضد الموحدين وأحيانًا تخضع لدولة الموحدين.
4- ثورات الأندلس ضد دولة الموحدين: ومن أشهر هذه الثورات، ثورة محمد بن مردنيش الذي لم يتم القضاء عليه إلا بعد ربع قرن من تحالفه مع النصارى.
5- النزاع على الخلافة بين الموحدين ولم يستطيعوا أن يضعوا نظامًا ثابتًا لتولِّي الخلافة عندهم.
6- أيضًا من العوامل المسئولة عن سقوط الموحدين الترف والانغماس في الشهوات
دولة بني الأحمر في مملكة غرناطة ( 620- 897هـ )
كانت مملكة غرناطة هي بقية ملك المسلمين في الأندلس بعد أن تمزق دولتهم، ووقوع أكثر المدن الكبرى في أيدي الصليبيين، وكان منشئ دولة بني الأحمر رجلاً عربيًا من بني نصر الدين – يقال إنهم ينتسبون إلى خزرج المدينة – ويدعى محمد بن يوسف، كان رجلاً شديد المراس ذا خلق كريم وكفاية نادرة، ولذلك لُقِّب بالشيخ اعترافًا له بالزعامة في بني النضير، ونظرًا للظروف التي كان المسلمون يمرون بها بالأندلس لم يكن بنو الأحمر يطمحون في أكثر من المحافظة على غرناطة، وقد كان ملوك غرناطة يطلبون المساعدة من بني مرين في المغرب ليساعدوهم في الحفاظ على ملكهم
وبعد موت محمد الخامس توالى على عرش غرناطة عدد من ملوك بني الأحمر لم تكن لهم قوة أسلافهم ولا حذرهم ولا حيطتهم فعاشوا عيشة ترف ولهو، وفي الوقت الذي أخذ فيه الضعف يدب في أوصال غرناطة، بدأ النشاط والقوة تتجمع في إسبانيا المسيحية، فقد تزوج فرديناند ملك أراغون من إيزابيلا ملكة قشتالة واتحدت المملكتان ضد غرناطة.
وفي سنة 897هـ= 1492م أراد فرديناند أن يحسم الجولة فخرج بجيش قوامه 50.000 وحاصر المدينة، ولم يجد أبو عبد الله حاكم المدينة آنذاك بدًا من مفاوضة الصليبين، ولكن قائده موسى لم يرضَ بالتسليم للعدو، فلبس سلاحه وركب جواده، وغاص في الأعداء ضربًا وطعنًا حتى قتل غرقًا، مفضلاً ميتة كريمة عن حياة ذليلة[2].
شروط التسليم
كانت شروط التسليم سبعة وستين شرطًا، منها:
- تأمين المسلمين على أنفسهم وأهلهم وأموالهم
- وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم وعقارهم
- وإقامة شريعتهم على ما كانت عليه
- وأن تبقى المساجد كما كانت
- ولا يُقهَر أحد على ترك دينه
- وأن يسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا على نفسه وماله
- وأن يطلق سراح أسرى المسلمين
- وأن يكون لهم الحق في الخروج إلى أفريقية بأموالهم وأولادهم متى شاءوا.
وافق المسلمون على هذه الشروط ولم يكن أمامهم خيار آخر، ووقف عبد الله في ثلة من فرسانه بسفح جبل الريحان فلما مر موكب فرديناند وإيزابيلا تقدم فسلم مفاتيح المدينة ووقف من بعيد يودع ملكًا ذهب ومجدًا ضاع فلما رأته أمه ( عائشة الحرة) يبكي؛ قالت: "ابكِ مثل النساء ملكًا مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال"، ثم هاجر أبو عبد الله إلى المغرب ونزل بفاس؛ حيث عاش هو وأبناؤه على سؤال المحسنين
حركة إزالة الإسلام في الأندلس
لم تكن دموع أبي عبد الله آخر دموع سكبت بالأندلس بل تلتها دموع، ذلك أن النصارى ما لبثوا أن تنكروا لعهودهم ونقضوا الشروط، إلى أن آل الأمر إلى حملهم المسلمين على التنصير، فقد استصدرت المراسيم تخير المسلمين بين التنصير أو مغادرة البلاد؛ ففي 4 من محرم 907هـ صدر المرسوم الملكي بمنع وجود المسلمين في مملكة غرناطة، وحظر اتصال المسلمين بعضهم ببعض، ومن يخالف تلك الأوامر يكون جزاؤه الموت ومصادرة أملاكه.
في 13من رمضان 908هـ= 12من فبراير 1502م صدر المرسوم الذي يحتِّم على كل مسلم حر يبلغ الرابعة عشرة من عمره إن كان ذكرًا والثانية عشر من عمرها إن كانت أنثى مغادرة غرناطة قبل أول شهر مايو من العام نفسه، ولا يسمح لمن يريد الخروج التصرف في أمواله وممتلكاته، ولا يكون الخروج إلى شمال إفريقيا؛ لأنها بلد إسلامية.
في 19 من ربيع الأول سنة 920هـ= 12مارس سنة 1524م صدر الأمر البابوي بإجبار المسلمين على اعتناق الكاثوليكية، ومن أبي ذلك فعليه الخروج من إسبانيا خلال مدة معينة أو يصبح عبدًا رقيقً مدى الحياة، وفي ختام الأمر قرار يجعل كل المساجد كنائس، ورغم تنصُّر الكثيرين إلا أنهم لم يُترَكوا لحالهم، ولم يَسْلَموا من التعذيب والمطاردة.
وفي سنة 1007هـ= 1599م صدر المرسوم الملكي باسترقاق شباب المتنصِّرين والكهول منهم، ومصادرة أموالهم ونفيهم إلى خارج البلاد وأخذ الأطفال وإيداعهم المعاهد الدينية المسيحية ليتلقوا تربيتهم.
وفي 1018هـ=1609م صدر المرسوم الملكي بنفي كل المتنصرين إلى بلاد البربر خلال ثلاثة أيام من نشر القرار، وتم تقدير عدد المنفيين بعد ذلك بأكثر من مليون شخص.
وأخذ الأسبان يلفقون تهمًا غريبة لبقايا المسلمين وكان العقاب جاهزًا ومتشابهًا في كل الحالات: فمن الحرق إلى الجلد ومصادرة الممتلكات أو التشهير، ومن التهم التي كانت تُلَفَّق للمسلمين مثلاً: كثرة الاستحمام، أو تكفين الميت في ثياب جديدة، أو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، أو اقتناء القرآن، أو إحراز أوراق أو كتب عربية، أو إنشاد أغاني عربية أو الامتناع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر أو الوضوء والقيام إلى الصلاة أو الصيام
ظلَّ الأندلس بعد ذلك شبه خالٍ من المسلمين، إلا من الآثار الإسلامية، والعمران غير المسبوق الذي تركه المسلمون ما يزال شاهدًا على التقدم الذي شهده الأندلس خلال الحكم الإسلامي، وما زالت إسبانيا المسيحية حاليًا تقتات على الدخل السياحي الكبير الذي تدرُّه تلك الآثار الإسلامية التي امتهن النصارى بعضها؛ فحوَّلوه إلى كنيسة، أو متحف.
لقد شُغِف العالم بما شيده المسلمون كمدينة الزهراء التي لم يُبْنَ مثلُها، وقصر الحمراء بغرناطة، والمسجد الكبير بقرطبة الذي شوهه ألفونسو عند دخوله قرطبة؛ فقد جعل في أحد مداخل المسجد كاتدرائية، وأمر بتعليق أجراس الكنائس على المآذن، والآن يُمنَع أن تقام فيه الصلاة ويصعب دخوله إلاّ بتذكرة مدفوعة الثمن!
وما زالت الصليبيون في الأندلس المفقود يحاولون تشويه التاريخ، ويكذبون على العالم كله؛ فقد شاهدنا جميعًا حفل افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية بمدينة برشلونة الأسبانية عام 1992م، وقد أُقِيمت هناك عمدًا في الذكرى الخمسمائة لطرد المسلمين من الأندلس، ورأينا كيف صور النصارى الإسبان من خلال فقرات الحفل الفاتحين المسلمين؛ فقد صوروهم كشياطين وقوى شريرة ترتدي السواد تأتي في سفن من قلب الظلام؛ لتحاول فتح الأندلس؛ فيبرز لها من خلف الأسوار ملائكة ترتدي البياض تشير إلى الصليبيين المجرمين؛ فيهزموا قوى الشر – المسلمين – ويردوهم على أعقابهم.
لقد مرَّ الحفل على الكثيرين، ولم يفهموا المعنى المراد؛ وذلك لأننا في غيبة عن تاريخنا المجيد، وفي ذهول عن محاولة إعادة ذلك التاريخ؛ بالنهضة والعلم، وقبل ذلك وبعده بالتمسك بصحيح الإسلام.