عبد الرحمن الثاني (الأوسط) 206-238هـ :
خلف عبد الرحمن الثاني أباه الحكم الأول في ظل أجواء هادئة، وعرف بالأوسط لأنه ثاني ثلاثة سموا بهذا الاسم، وهو لا يتفق مع أبيه في كثير من الصفات، إنه أقل تمسكًا بنظرية الحكم المطلق، وبالتالي فإن خلفيته الدينية كانت بارزه في البلاط، وانعكست شخصيته المثقفة والفقهية الواسعة، وما تمتع به من إحساس فني مرهف، وذوق اجتماعي رفيع على حياة الأندلس، ويعد عهده بداية الانتقال الحقيقي إلى الدولة بمفهومها المحدد كمؤسسة إدارية وثقافية وعسكرية متطورة
وفي عهده بدأت مظاهر الحضارة والترف تظهر، فأنشأ الناس القصور الجميلة وأخذت قرطبة طريقها لتصير أجمل مدائن أوربا على الإطلاق، ولكن هذه حياة الأقلية أما حياة الأكثرية فكانوا يعيشون في رخاء نسبي، لأن البلد كان غنيًا وكان الناس مقبلين على العمل، والضرائب قليلة، وكان هناك ديوان المظالم مخصص للنظر في شكاوي الناس من أعمال رجال الدولة وتصرفاتهم
التصدي لغارات النورمان:
كانوا يقبلون من البحر ويقومون بغارات على المسلمين، فاستطاع عبد الرحمن الأوسط التصدي لهم وأنشأ البحرية الأندلسية التي استطاعت السيطرة على الحوض الغربي للبحر المتوسط، واستولت على الجزائر الشرقية – البليار- وكان هناك أسطولين أسطول بالبحر المتوسط وأخر بالمحيط الأطلسي
وتوفى عبد الرحمن الأوسط في 3 ربيع الثاني 238هـ= 852م بعد حكم دام إحدى وثلاثين سنة تعتبر من أزهر فترات التاريخ الأندلسي بما ساد قرطبة وكبار المدن ومراكز العمران من هدوء وما تمتعت به البلاد من رخاء ورفاهية، لأن عبد الرحمن ورجاله كانوا من أذكياء رجال الدولة الذين يؤمنون بأن رخاء الرعية أساس لثبات الحكم واستقرار أسس العدالة والنظام
عهد الخلافة الأموية
عبد الرحمن الثالث (الناصر):
كان الناصر أميرًا حازمًا، وذكيًا عادلاً، وعاقلاً شجاعًا، محبًا للإصلاح وحريصًا عليه، قاد الجيوش بنفسه، فأنزل العصاة من حصونهم، لشجاعته وسياسته الحكيمة بالسيف أو بالسياسة الرشيدة التي اتبعها
تولى الأمير عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الحكم وهو في الحادية والعشرين من عمره، وقد تولى الحكم في ظروف صعبة إذ أن أعمامه كانوا أحق منه في تولي هذا الأمر، لكنهم زهدوا فيه بسبب التمزق والحالة التي وصلت إليها البلاد، في حين كان عبد الرحمن شابًا طموحًا فتعلقت آمال الجند به، وهكذا تولى الأمير عبد الرحمن الثالث عرش الإمارة في عام 300هـ= 912م، دون منازع مما أتاح له حرية الحركة للتصدي لمشكلات التي تعاني منها البلاد
الأوضاع الداخلية:
أرسل عبد الرحمن الناصر منشور إلى كل أمير أو ملك من هؤلاء المتغلبين على النواحي، وفيه يعد ويتوعد ويمني ويحذر، فأيما رجل متغلب على ناحية من النواحي قدم ولاءه للحاكم الشرعي فإنه سيكون من المقربين، وسيحقق ما يبتغيه من مال وسلطان تحت راية الإمارة المركزية، ومن لم يفعل فينذره بحرب مدمرة
واستطاع عبد الرحمن الناصر بعد إصدار هذا المنشور أن يقضي على جميع الثورات دون معاناة، أما الخصم الوحيد الذي كلف عبد الرحمن مشقة كبيرة فهو ابن حفصون غير أنه ضعف أمره وذهبت ريحه خصوصًا بعد أن أرتد عن الإسلام وتوفي في سنة 312هـ وكان أمره قد تفرق تمامًا ولم يصمد أولاده من بعد لعبد الرحمن وسقط حصنه المنيع ببشتر
إحياء الخلافة الأموية:
بعد أن استتب الأمر لعبد الرحمن الناصر وجد أن اللقب الذي ورثه عن أسلافه وهو الأمير، لم يعد يسع لطموحه الكبير، ورأى أنه أحق بألقاب الخلافة، فاتخذ لنفسه لقب أمير المؤمنين، وتلقب بلقب الناصر لدين الله أمير المؤمنين وذلك في عام (316هـ=928م)، وقد شجعه على ذلك ضعف الخلافة العباسية، وقيام دولة فتية معادية في شمالي إفريقية وهي الدولة الفاطمية التي تطلعت لضم الأندلس، وأيضًا بعد قيام عبد الرحمن الناصر بإخضاع القوى الثائرة في الأندلس كان لابد من رفع مكانة الأمير السياسية والدينية وإعطاء قرطبة دورًا أكثر مركزية بحيث تشدد قبضتها على الأطراف، بالإضافة إلى رغبة الأندلسيين في أن يكون لهم خليفة
أمّا على الصعيد الخارجي:
فلم يكن باستطاعة عبد الرحمن الناصر تجاهل النشاط الإسباني الواسع ضد أراضيه، وتجسد تصميمه على توجيه ضربه انتقامية للملك الليوني في عمق بلاده، وخاض من أجل ذلك حروبًا طويلة منذ عام 308هـ=920م وأحرز عدة انتصارات واستعاد عددًا من المواقع المهمة لاسيما أوسما وتطيلة، غير أن راميرو الثاني خليفة أردينو الثاني، أنزل به هزيمة في معركة جرت عند خندق مدينة شمنقة في 327هـ= 939م، ورغم ذلك لم تحدث هذه المعركة أي تغير في وضع الأراضي، كما أن استئناف العمليات العسكرية التقليدية من جانب الخلافة ضد ممالك الشمال في أعقاب الهزيمة، كان كافيًا لردع أي محاولة توسعية من جانب الأسبان
إنجازات عبد الرحمن الناصر المدنية:
أنشأ عبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء في سفح جبل العروس بالقرب من قرطبة، ووسع مسجد قرطبة الكبير، ولعل أبرز المنشآت التي أضيفت إليه تلك المنارة المذهبة التي سميت بمنارة الناصر.
وازدهرت الحياة الاقتصادية في عهد الناصر فامتلأت خزانة الدولة بالأموال المتحصله من التجارة والصناعة والزراعة، بالإضافة إلى ذلك بلغت العاصمة قمة التألق الثقافي والحضاري، فزخرت مكتباتها بآلاف المخطوطات النفسية، وغصت أروقة مساجدها وقصورها بالنخبة من العلماء والشعراء وبلغت النهضة العلمية مرحلة النضج
ويروي المقري في نفح الطيب: "أنه وجد بخط الناصر –رحمه الله- أيام السرور التي صفت له دون تكدير، يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا من كذا، وعدت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يومًا"
وقد توفي عبد الرحمن الناصر في اليوم الثاني من رمضان سنة 350هـ=961م بعد أن أدى إلى الدولة الإسلامية هذه الأمجاد، ودفن في رياض قصر قرطبة
الحكم بن عبد الرحمن (المستنصر بالله):
هو الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد لقبه المستنصر بالله ولد سنة 302هـ=914م، تولى الخلافة سنة 350هـ= 961م، وقد جاء المستنصر إلى الحكم ولديه تجربه في الشؤون الإدارية والعسكرية بما اكتسبها نتيجة مصاحبة والده، لكن دوره اقتصر في المحافظة على مكتسبات والده في الداخل، وحمايتها من غارات الأسبان في الخارج، فقد ظهر قويًا، حازمًا، لكنه أشتهر بأنه كان عالمًا أديبًا يقضي الكثير من الوقت في القراءة لكن دون أن يشغله ذلك عن القيام بأعباء الدولة
أما عن فتوحاته فقد تعددت وكان من أعظم ما فتحه قلهرة من بلاد البشكنس على يد غالب بن عبد الرحمن
بناء الدولة والاهتمام بالمعرفة:
كان المستنصر بالله مكملاً لدولة أبيه الناصر، فقد كان أبوه رجل دولة وحرب وسياسة وكان هو إلى جانب ذلك رجل علم وأدب وحضارة، فقد أنشأ في القصر مكتبة بني لها بناءًا خاصًا وأقام لها رجال المكتبات من مسجلين ومنظمين ومفهرسين حتى أصبحت أعظم مكتبة في العصور الوسطى، وقد قدر المؤرخون كتبها بنصف مليون مجلد
واهتم المستنصر بالتعليم فبني عددًا من المدارس، وكانت جامعة قرطبة من أشهر جامعات العالم ومركزها المسجد الجامع، تدرس فيها مختلف أنواع العلوم والمعرفة
وتوفى الحكم الثاني المستنصر في عام 366هـ= 977م
الدولة العامرية أو عصر سيطرة الوزراء
هشام بن الحكم بن عبد الرحمن: ( 366هـ - 406هـ = 976م - 1013م )
هو هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، تولى الخلافة وعمره لا يزيد عن عشر سنوات وأشتهر بلقب المؤيد بالله وانقسم رجال الدولة إلى قسمين:
- قسم العسكر ويرى في هشام طفلاً لا يصلح للإمارة ويرشحون عمه ( المغيرة ابن عبد الرحمن الناصر)
- وقسم الوزير المصحفي ومحمد بن أبي عامر ورجال الحكم المدنيين يرون استبقاء هشام في الحكم تقوية لنفوذهم واستئثارًا بالسلطة
المنصور محمد بن أبي عامر:
برز في هذا الصراع محمد بن أبي عامر فقام بقتل المغيرة بن عبد الرحمن الناصر – كان المرشح للخلافة بعد أخيه الحكم- ثم انقلب على صديقه جعفر بن عثمان، وأصبح رئيسًا للوزراء، وظل ابن أبي عامر يدبر المكائد والمؤامرات حتى حجر على الخليفة هشام واستولى على الدولة.
وقد قام محمد بن أبي عامر في سنة 381هـ=991م بتعين ولده عبد الملك رئيسًا للوزراء وجعل أخاه عبد الرحمن وزيرًا، وفي سنة 386هـ = 996م اتخذ المنصور لنفسه لقب الملك
جهاده ضد الممالك النصرانية:
واصل المنصور مسيرة خلفاء بني أمية في الأندلس فقد حكم بالعدل، وقام بغزو البلاد المسيحية فخرج إلى قشتلية غازيًا، ثم خرج إلى مدينة شنت ياقوت عاصمة غليسية، وأعظم المشاهد النصرانية الموجودة ببلاد الأندلس.
وفي سنة 387هـ= 997م دخل المنصور مدينة قورية، وكانت آخر غزوة غزاها المنصور في ربيع 392هـ= 1002م وقصد فيها برغش وقشتالة وقد أحتلهم المنصور وهزم جيشهم وعاش في أرض مملكة ليون
كان محمد بن أبي عامر جزعًا على مستقبل إرثه الذي أقامه في أحضان الخلافة الأموية، مدركًا أن مكتسباته لن تعيش طويلاً بعد غيابه لأنها ارتبطت بشخصه وبمنجزاته، وتوفى في مدينة سالم أثناء عودته من غزوة لإقليم قشتالة عام 392هـ=1002م، إلا أن جهوده أفرزت في النهاية حكمًا وراثيًا، فخلفه ابنه الأكبر عبد الملك المظفر، وأصدر الخليفة كتابًا بتوليته الحجابة
دولة المرابطين بالأندلس ( 484- 539هـ )
من المرابطون؟ من هؤلاء الذين يهدد بهم ابن عبّاد ألفونسو؟
المرابطون هم قبائل ينسبون إلى حمير، وأشهر هذه القبائل لمتونه وجدالة ولمطة، ومن لمتونه كان أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وقد دخلت هذه القبائل المغرب مع موسى بن نصير، وتوجَّهوا مع طارق بن زياد إلى طنجة، لكنهم أحبوا الانفراد فدخلوا الصحراء بالمغرب الأقصى واستوطنوها
وفي سنة 448هـ حدث بينهم انبعاث ديني، وانبثق فيهم من يدعو إلى الجهاد في سبيل الله، وتسمَّى هؤلاء بالمرابطين، وقد تغلب هؤلاء المرابطون على المنطقة كلها من الجزائر إلى السنغال، وكانوا رجالاً من طابع طارق وأصحابه لا تنقصهم الشجاعة وليس للترف إليهم منفذ، وفي سنة 462هـ آل أمر المرابطين إلى يوسف بن تاشفين وكان رجلاً تقيًا حازمًا داهية مجربًا، فمد فتوحه في المغرب الأفريقي حتى دان له جميعه، واختط مدينة مراكش تحت جبال المصامدة، الذين هم أشد أهل المغرب قوة، فكانت مراكش عاصمة لدولة المرابطين ثم ملك سبته وطنجة وأصبح بذلك مطلاً على جنوب الأندلس، ودولته هي أقوى دولة بالمغرب ومن ثم استنجد به أهل الأندلس
السلطان يوسف بن تاشفين أمير المرابطين:
هو أمير المسلمين، السلطان أبو يعقوب يوسف بن تاشفين اللمتوني، ويعرف بأمير المرابطين، وقال عنه ابن الأثير: "أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ملك المغرب والأندلس، وكان حسن السيرة خيرًا عادلاً، يميل إلى أهل العلم والدين، ويكرمهم ويحكِّمُهم في بلاده ويصدر عن آرائهم، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام، وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبه لها، وظهر ذلك عليه"
وقال عنه ابن خلكان: "كان حازمًا سائسًا للأمور، ضابطًا لمصالح مملكته، مؤثرًا لأهل الدين والعلم، كثير المشورة لهم"
معركة الزلاقة
وافق يوسف بن تاشفين على تقديم المساعدة لأهل الأندلس واشترط أن يُمنَح الجزيرة الخضراء لتكون مركزًا لانطلاق جيوشه، بعد ذلك عبر يوسف بن تاشفين بجيوشه مضيق جبل طارق ونزل في الجزيرة الخضراء فنظم شؤونها وحصنها، ثم تابع تقدمه باتجاه إشبيلية.
كان ألفونسو السادس آنذاك يحاصر مدينة سرقسطة، وحينما علم بأنباء الزحف الإسلامي، رفع الحصار عنها وأسرع بجيوشه نحو جيوش المسلمين من المغاربة والأندلسيين، فالتقى بهم في شمال شرقي بطليوس عند سهل الزلاقة، وهناك دارت بين الطرفين معركة طاحنة في شهر رجب 479هـ أكتوبر عام 1086م، هزم فيها ألفونسو هزيمة شنعاء وجرح في المعركة واضطر إلى التراجع باتجاه الشمال مخليًا إقليم بلنسية.
والحقيقة أن انتصار المسلمين في الزلاقة كان له آثار كبيرة حيث أنقذ العالم الإسلامي في الأندلس من السقوط في يد النصارى، كما ثبت أقدام المرابطين فيها
وبعد هذه المعركة رجع يوسف بن تاشفين إلى المغرب بعد أن ترك حامية مرابطية مكونه من ثلاث آلاف جندي بقيادة سير بن أبي بكر تساعد القوات الأندلسية في التصدي للهجمات الإسبانية التي بدأت تشن غاراتها على الأندلس انتقامًا لهزيمتها في الزلاقة
بعد ذلك عاد الأندلسيون إلى سيرتهم الأولى بعد رحيل يوسف بن تاشفين، فاختلفوا فيما بينهم، وضايقوا القوة المغربية التي بقيت في الأندلس لحملها على ترك البلاد، وتجاوز الإسبان بعد عام ذيول هزيمتهم في الزلاقة بعد النجدات التي وفدت عليهم من فرنسا والبابوية فاستأنفوا عملياتهم العسكرية، واختاروا المناطق الأكثر ضعفًا في شرق الأندلس وهي بلنسية ومرسية ولورقة والمرية
ونظرًا لخطورة الوضع قرر المعتمد الذهاب بنفسه إلى المغرب لطلب المساعدة من يوسف بن تاشفين، ووافق الزعيم المغربي على العبور مرة ثانية إلى الأندلس لإنقاذها من براثن الخطر النصراني، والسيطرة على ملوك الطوائف فعبر المضيق في عام 481هـ= 1088م، واستنفر الأندلسيين للجهاد.
وهاجم المسلمون حصن الليط الذي أقامه ألفونسو السادس، بين مرسية ولورقة، بعد معركة الزلاقة، غير أن تجددت الخلافات بين الأندلسيين وبخاصة بين المعتمد صاحب إشبيلية، والمعتصم صاحب المرية، حال دون فتح الحصن، وعاني يوسف بن تاشفين من هذه الخلافات ففقد ثقته بالأندلسيين، وعاد إلى المغرب عام 482هـ= 1089م وأخذ يستعد لعزل أمراء الأندلس، وضمها إلى المغرب.