العربي منذ بداياته الأولى إلى يومنا هذا رمزاً من الرموز المهمة
في بناء الحضارة العربية الإسلاميّة، بل والإسهام في الحضارة الإنسانيّة، كما
يؤكد الخطاط العربي المسلم تفوقه في هذا المجال، لدرجة جعلت كل دارسي الخط
العربي يجمعون على أن الفنان المسلم جعل للكلمة وظيفة جمالية مرئية إلى جانب
وظيفتها السمعية.
وقد حظي الخط العربي في الإسلام بعناية خاصّة، ولا غرو في ذلك، فهو ترجمان
القرآن الكريم ووسيلته التي حفظ بها على مر العصور، حيث حرص الفنان المسلم على
مدى أربعة عشر قرناً على تجويد الخط العربي وتحسينه، ووضع أقصى ما يمكن أن يضعه
العقل البشري من القواعد والمعايير في سبيل تجويد هذا الفن وأحكامه لتكون
بمنزلة قوانين ونظريات هندسية غاية في الدقة، لا يجوز الزيادة عليها أو النقصان
منها، يرجع إليها كل من أراد حذق الكتابة.
فالخط العربي يتمتع بإمكانات تشكيلية لا نهائية فحروفه مطاوعة للعقل وليد
الخطاط الحاذق إلى أبعد الحدود، لما يتميزُ به من المدِّ والقصر والاتكاء
والإرداف والإرسال والقطع والرجوع والجمع مما لا يتوفر في أيِّ من الخطوط في
اللغات الأخرى، ولذلك فهو ينتمي إلى العالميّة بكل قوة ودراية وشموليّة.
وهو فن يجمع الليونة والصلابة في تناغم مذهل وتتجلى فيه قوّة القلم وجودة
المداد المستمدة من النفحات الروحانية التي تهيمن على الخطاط المبدع في لحظة
إبداع فلسفي لا تكرر نفسها.
فمن ساحة الفكر المخزون يقفز نصّ جذاب أو حكمة مأثورة أو آية كريمة يرافقه
تخيل مبدئي لنوع الخط الذي ينبغي أن يكتب به، ومع أعمال الفكر وإجهاد القريحة
تبدأ ملامح التكوين الخطي تظهر رويداً رويداً للرّوح ثم للعين ثم تنفذ اليد
للإبداع الحقيقي.
كما أن الرابطة الحميمية التي تجمع مثلث العقل والروح والعين بدءاً بالتوافق
المنضبط في النسب المطلوبة بين الحروف والتناغم المألوف بين الحركات،
والانطلاقة الوثّابة لبعض الكلمات لتنصهر في علاقة واضحة بين نوع الخط ومعنى
الكلام المخطوط في بناء لوحة قادرة على التعايش مع الوسط الفني زمناً طويلاً.
والخط في اللغة يعني الكثير، منه ما يبتعد عما نعنيه بمعنى الكتابة، من ذلك
مثلاً رسم مستقيم له طول وليس له عرض ولا سِمك، أو رسم علامة أو حفر القبر أو
غزو السيب للرأس...الخ.
وقد ابتدأ الخط العربي من خلال علاقة " سيمولوجية" دلائلية أو رمزية متمثلة
بالبيان الإلهي في القرآن الكريم عن توضيحه بالكتابة، ومن هنا تطلب كتابة فاضلة
بالخط المنسوب أي الخاضع لقواعد الخط الجميل.
والخط العربي مَلِكة تنضبط بها حركة الأنامل بالقلم على قواعد مخصوصة، وهذه
الملكة تتربى بالتعليم وتقوى بالتمرين والاجتهاد، وليس كل إنسان قابلاً لأن
يكون خطاطاً، وإنما البعض دون البعض، حيث إنه من أدق الأشكال الهندسية، وحسن
الخط كامن في بعض الأفراد كمون النار في الحجر، لِما وهبه الله تعالى من
الاستعداد الفطري، فإذا ما اشتغل به نبغ نبوغاً عظيماً من غير عناء كبير، أما
من لم يكن فيه هذا الاستعداد الفطري لتحسينه، فلا يرجى له النبوغ والوصول إلى
غايته، مهما بذل من الجهد، وصرف فيه من الوقت، وقد ينال فيه قسطاً لا بأس به ،
إذ لكل مجتهد نصيب. "ولكن نصيب هذا لا يرفعه إلى الدرجة التي يصح أن يطلق عليه
لفظ (خطاط).
وهو نصٌّ في مرآة يعكس الحلم الخالص بانتزاع اللغة من حقيقتها البشرية،
وتقديمها في شكل فني وبشكل أكثر تحدياً، فإن فن الخط هو الفن الذي يعتبر نفسه
متوفراً على هذه الصفة، وقائماً على بنية متميزة، وقواعد هندسية وزخرفية،
وعندما نقول فن قائم الذات، فإننا نعني أنه يستتبع في تخطيطه نظرية في اللغة
وفي الكتابة، وقبل كل شيء، فإن هذا الفن يدخل في نطاق البنية اللسنية، ويشكل
معجماً ثانياً للرموز، منحدراً من اللغة، إلا أنه يلعب بها ويضاعفها عن طريق
حركة مرئية ومن ثم فنحن نستبعد جميع التعريفات العائمة التي تطلق فن الرسم
يلتقي أحياناً بمنطلقات فن الخط، فإن هذين الفنين يختلفان في طريقة إبراز
الإشارة المستمدة من الحروف، وكذلك في طريقة إضفاء الحياة عليها.
كما إن الخط فن رائع ملتصق باللغة العربية، غني بالبهاء والرواء، وقد يراه
بعضهم أنه باب من أبواب الرسم ولا شك أن له صلة بالرسم ولكنه باب تميز عن أي
باب من الرسم الأخرى، متميّز بوظيفته وطبيعته وارتباطه بأشرف لغة وأكرم أدب،
وكأنه أصبح بهذا الارتباط جزءاً من الأدب، وإذا لم ير بعضهم أنه شكلاً من أشكال
الأدب فهو باب من أبواب اللغة العربية خاص باللغة ذاتها.
وقد قالوا إن الخط توفيق من عند الله جل وعلا، واستفاد البشر لتركيب حروفه
عن طريق العقل البشري، وقد فسّر هذه النظرية عمر بن عتبة، بقوله: العقل عقلان،
عقل تفرد الله بصنعه وهو الأصل، وعقل يستفيده المرء بأدبه وهو الفرع فإذا
اجتمعا قوّى كل منهما صاحبه، تقوية النار في الظلمة للبصر، واجتماع العقلين آلف
عند الناس وأقرب للواقع، فإنهم يتبنون دائماً تقوية العقل الموهوب. بما يكتسب
من ممارسة واستفادة من تجربة وتكرار حصل علم الكتابة الذي نسميه الخط.
كما ويعد الخط الجانب الذي يعبر عن الترابط القوي في مختلف الأقطار
الإسلاميّة وبين المهتمين بالخط العربي لا باعتباره وسيلة تواصل وتفاهم فحسب،
بل لكونه فناً برزت فيه نخبة من الخطاطين المسلمين على غيرها بما لا تزال بعض
خزائن الكتب تزدان به من روائع آثارهم بما أضفوه عليه من سمات الإبداع والجمال،
وما رسموه له من قواعد ثابتة، حتى أصبح علماً راسخ الأصول مع اعتباره بما تتصف
به من صور حروفه وهندسة تراكيبها من مرونة وتناسب – من الفنون التي تفسح
للأخيلة المبدعة، وللأذواق السليمة أرحب المجالات للإبداع والإمتاع.
وكان على الخط أن يبالغ في تجويد كتابة القرآن الكريم كي يرقى إلى مستوى
بلاغته، وكان أول المعتنين بذلك الخليفة الراشد الإمام علي بن أبي طالب
رضي الله عنه الذي قال:«جوّدوا
كتابتكم، فإنها تزيد الحق سطوع البرهان» (ابن أبي الحديد- نهج البلاغة)
وعلى الصلة الروحانية في التفريغ الفني، ورد عن الفارابي قوله:«إن
الخط أصيل في الروح وإن ظهر بحواس الجسد». وقد ورد في جواب بعض
الخطاطين، عن متى يستحق أن يوصف الخط العربي بالجودة قائلين:«إذا
اعتدلت أقسامه وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت
عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنفاسه، ولم تختلف أجناسه
وأسرع إلى العيون تصوره، وإلى القلوب ثمره، وقدرت فصوله، واندمجت وصوله، وتناسب
دقيقه وجليله، وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه، وخرج عن نمط الورّاقين، وبَعُدَ
عن تصنّع المحررين، وقام لكاتبه النسبة والحلية».
حيث تمتاز الحروف العربية أنها تكتب متصلة أكثر الأحيان، وهذا يعطي للحروف
إمكانيات تشكيلية كبيرة، دون أن يخرج عن الهيكل الأساسي لها.
ولذلك كانت عملية الوصل بين الحروف المتجاورة ذات قيمة هامة في إعطاء
الكتابة العربية جماليّة من نوع خاص، من حيث تراصف الحروف مثل (ب، ن، ق، ف، س،
ش) وغيرها، تأخذ دوراً في إعطاء الكتابة العربية تناسقاً ورشاقة عندما تكون هذه
المدّات متقنة وفي مواضعها الصحيحة، ويمكن أن نلاحظ أن طريقة الوصل بين الحروف
تختلف من نوعٍ إلى آخر من أنواع الخط العربي، كما في الديواني والنسخي والكوفي
والثلث والفارسي (التعليق) وهذا الاختلاف ناتج عن الأسس المتبعة في كتابة كل خط
من هذه الخطوط، حيث نجد الزوايا والخطوط المستقيمة سائدة في أنواع الكوفي ونجد
الأقواس والزوايا في كل من النسخي والثلث بينما تكون الأقواس الرشيقة والمدّات
الانسيابية سائدة في الخط الديواني.
وتتخذ الوصلات سماكات مختلفة في الخط الفارسي، لتعطي للحروف المتباينة في
عرضها تناغماً موسيقياً رائعاً. (وإن مجموع حركة الخط وما يتوالد عنه من اشعاع
موسيقي مطابق لشاعرية مرئية ساعية نحو اللامرئي، كل ذلك يحدده النص بالنسبة ليد
الخطاط الراقصة).
يضاف إلى ذلك الغنى الفني الذي يمكن أن يضيفه التشكيل والزخرفة الملحقة
بالحروف، فعلامات الفتح والكسر والضم والسكون والتنوين والمد والإدغام (الشدّة)
كلها عناصر تزيينية زخرفية لا غنى عنها لإتمام التناسق وملء الفراغات، إضافة
إلى ضبط الكلمات وصحة قراءتها، وذلك في خطوط النسخي والثلث والديواني الجلي،
وللزخرفة أيضاً دور كبير في جماليات الخط الكوفي حيث تضيف إليه وإلى الخطوط
السابقة نوعاً من الأبّهة والفخامة.
كل ذلك يعطي للكتابة العربية تفرّداً في جمالها بين الكتابات العالمية وهذا
ما جعلها تدخل في صميم الفنون التشكيلية قديماً وحديثاً.
ويروي المستشرق (ريتر) أستاذ اللغات الشرقية في جامعة استانبول وهو من
الأساتذة المخضرمين الذين حضروا وحاضروا في العهدين العثماني والكمالي قال:«إنَّ
الطلبة قبل الانقلاب الأخير في تركيا كانوا يكتبون ما أتلو عليهم من محاضرات
بسرعة فائقة لأن الحرف العربي اختزالي بطبيعته، أما اليوم فإن الطلاب يكتبون
بالحرف اللاتيني ولذلك فهم لا يفتأون يطلبون إلي أن أُعيد عليهم العبارات
مراراً، إنهم معذورون ولا شك في ذلك فيما يطلبون لأن الكتابة اللاتينية لا
اِختزال فيها فلا بدَّ من كتابة الحروف بتمامها»، ثم أضاف قوله: «إن
الكتابة العربية أسهل كتابات العالم وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار
طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح». هذا من الناحية الاختزالية،
أما من الناحية الجماليّة فهناك إجماعٌ على تفوق الخط العربي واحتلاله مركز
الصدارة بين خطوط العالم، ويروي لنا التاريخ أن الخليفة العباسي (الواثق بالله)
أنفذ ابن الترجمان بهدايا إلى ملك الروم فرآهم قد علّقوا على باب كنيستهم كتباً
بالعربية فسأل عنها، فقيل له: هذا كتب المأمون بخط أحمد بن أبي خالد استحسنوا
صورتها فعلّقوها، هذا ما حكاه الصولي.
وقد أورد أيضاً أن سليمان بن وهب كتب كتاباً إلى ملك الروم في أيام الخليفة
المعتمد فقال ملك الروم: ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم
على شيء حسدي على جمال حروفهم، وملك الروم لا يقرأ الخط العربي وإنما راقه
باعتداله وهندسته.
ويقول الخليفة المأمون "لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفاخرناها بمِا
لَنا من أنواع الخط، يقرأ في كل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد في كل زمان".
وما أحسن وأدق قول الكندي وهو من أهل القرن الثالث عشر للهجرة: «لا أعلم
كتابة تحتمل من تجليل حروفها وتدقيقها ما تحتمل الكتابة العربية، ويمكن فيها من
السرعة ما لا يمكن في غيرها من الكتابات».
ويقول الشيخ محمد عبده في المقارنة ما بين الخط والشعر فيقول:إذا كان الرسم
ضرباً من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى،
فالخط هو اليد الشاعرة التي تسمع وترى.
ويقول الأمير والفنان خالد الفيصل: بأن للخط العربي رحلة وجدانية يستشعر
المتتبع لها دفء الإيمان وتوهج الرسالة وصدق الانتماء فالحروف ليست قطعاً
جامدة، ولكنها كائنات حية تنبض بمشاعر الفنان المسلم وتعكس إصراره وتفانيه
لتحقيق أعلى درجات الإتقان والإحسان، فالحروف لابدَّ أن ترتقي إلى مستوى
التعبير عن الرسالة، رسالة الخلاق البديع إلى الناس أجمعين.
بل إن عقلاء الإفرنج والمتنورين من المستشرقين، يقرّون ما للعرب ولغتهم من
شرف المكانة وما لحروفهم من الجمال والحُسن، حتى إن منهم اِنبرى يدافع عن
الكتابة العربية وأخذ يسفه رأي من استبدلها بالحروف اللاتينية، فالخط العربي
يمتاز عن غيره من الخطوط الأجنبية بموازين عديدة أهمها:
1ـ أنه يقبل أن يتشكل بأي شكل هندسي، ويتمشى على أي صورة بحيث لا
تختلف ماهيته ولا يطرأ على جوهره تغيير أو تبديل، ولذا تجد قد مرَّ عليه منذ
صدر الإسلام إلى الآن، وما يزال يقبل ما يدخله عليه أهل هذه الصناعة (الخطاط)
والذين ينتمون إلى أصحاب الذوق السليم، من خلال التدقيقات والتحسينات والزخارف،
لأنه في الحقيقة عبارة عن نقوش منظمة، وأشكال هندسية ورسوم فنية، ودائرة هذه
الأشياء واسعة لا حدَّ لها ولا تدخل تحت أي حصر.
2ـ إن مَن يمعن النظر في الخط العربي يجد بينه وبين سائر الأشياء
تشابهاً وتقارباً نسبياً، يُميز ذلك مَن نبغ في فن الخط وصار خبيراً بأسراره
وخفاياه.
ومن ألطف الأدلة وأظرف البراهين على منـزلة الخط العربي الرفيعة أن الشعراء
كثيراً ما كانوا يشبهون محاسن المحبوب بأنواع الحروف العربية، فقد شبهوا الحاجب
بالنون،والعين بالعين، والصدغ بالواو، والفم بالميم والصاد، والثنايا بالسين،
والطرة المضفورة بالشين، وبعضهم عكس المعنى فشبه الأحرف العربية بأعضاء
المحبوب، ولنذكر هنا شيئاً مما قيل في ذلك وهو قول أبو المطاع ذو القرنين بن
حمدان المتوفي سنة 428هـ