قراءة في كتاب "معجم المصنفات الحسينية" للدكتور محمد صادق الكرباسي
يفتخر كل مجتمع بتاريخ أجداده، وكل أمة تدعي وصلا بليلى الحضارة، فبعض ترجع حضارتها إلى نشوء الأرض، وبعض إلى سبعة آلاف سنة وأخرى إلى خمسة آلاف سنة، وشاهد كل حضارة أن بها ابتدأت المدينة وبها ابتدأت المدنية وشاعت الحضارة، ولا يعدم الصواب من قال بهذا، لأن المدينة والاجتماع طريقان إلى التمدن والتحضر، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، ما لم تكن لغة التخاطب مرسومة ومحفورة يرجع اليها جيل بعد آخر متعلما ومطورا، ولا يكون هذا إلا بالكتابة، لأن الأذهان مهما تكن حافظتها قوية وسريعة البداهة كشريط مدمّج، فإن صحراء النسيان سيزحف عليها بمرور الزمن، فالحافظة تشحذ بما قيدته على الفخار او الورق، وكما قال النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): "آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله"، فالعلم مثل غزال في البراري لا يصيدها ولا يقيدها إلا الكتابة.
من هنا، فان الكتابة تشكل في عالم التمدن والحضارة سواراً في معصم العلم يحفظه ولا يكاد يهرب منه، ولذلك ورد في الأثر عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (قيدوا العلم بالكتابة)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: (اكتبوا هذا العلم، فإنكم ستنتفعون به، إما في دنياكم وإما في آخرتكم، وأن العلم لا يضيع صاحبه)، والكتابة في الوقت نفسه زينة الأمة، خُطَّ على المجتمع المتحضّر مخط القلادة في جيد الفتاة، ومن حقوق الولد على الوالد، أن يعلمه، وقد ورد عن الامام علي (عليه السلام): (أكرموا أولادكم بالكتابة فإن الكتابة من أهم الأمور وأعظم السرور).
الكتابة توأم الوجود الإنساني
ولكن متى بدأت الكتابة؟ ومن وضع اللبنات الأولى للخطوط الشهيرة؟ وكيف بدأ تصنيع الورق؟ ومتى بدأ التأليف؟ ومن أوجد المطابع؟ وما أهم المكتبات العالمية؟ وبيبلوغرافيا الكتابة والتصنيف حول النهضة الحسينية، هذه الأمور وتفريعات كثيرة، يبحثها المحقق الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي، في كتابه المعنون "معجم المصنفات الحسينية" في جزئه الأول، الصادر عن المركز الحسيني للدراسات في لندن، في 488 صفحة من القطع الوزيري.
وربما يتبادر إلى الذهن بأن الكتابة مرحلة لاحقة على وجود البشرية، نزولا عند آراء خبراء طبقات الأرض والآثار، وخبراء التاريخ الإنساني بشكل عام، لكن المحقق الكرباسي وبالرجوع إلى المرويات، يذهب إلى أن الكتابة كانت معروفة عند أبي السلسلة البشرية الحالية النبي آدم (عليه السلام) عندما أوحى الله إلى الملائكة أن: (اكتبوا عليه –أدم- كتابا فإنه سينسى فكتبوا عليه كتاباً وختموه ..)، وكان ذلك في عام الهبوط المصادف للعام 6880 قبل الهجرة النبوية الموافق للعام 6052 قبل الميلاد. وعلى خلاف من يقول أن استعمال القلم جاء بعد فترة طويلة من نشوء البشرية، فان المحقق الكرباسي يرى أن النبي إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، المولود في العام 6268 قبل الهجرة (5452 ق.م)، هو أول من استعمل القلم وخط به. واحتمل الشيخ الكرباسي أن يكون التأليف وتصنيف الكتب تم في عهد النبي نوح بن لمك بن متوشلخ بن إدريس (5824- 3556 ق.هـ) (5028-2828 ق.م). أما في العهد الاسلامي فإن ما كتبته السيدة فاطمة الزهراء من إملاء أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعلها (عليه السلام) والمشهور بـ "مصحف فاطمة" هو أول مصنف في الإسلام احتوى: "مجموع ما سمعته الزهراء (عليها السلام) من أبيها وبعلها في التشريع والأخلاق والآداب وبعض التنبؤات" لكن البعض كما يؤكد الباحث: "أراد مع الأسف تضليل الناس، وخرجوا بذلك عن أمانة النقل والكتابة فزعموا أن المراد بالمصحف هو القرآن لجهلهم أو تجاهلهم، رغم صريح الروايات بمحتواه"، وهذا الكتاب توارثه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) واحدا بعد آخر.
نشأة الخط العربي
ولما كان الخط هو صورة الكتابة المتكونة من الحروف الهجائية، فان المؤلف تناوله في مبحث مستقل ومستفيض عن تاريخه ونشأته وتطوره وأشكاله. فالخط قديم قِدم الانسان: "وأول من تعرّف على الخط هو آدم (عليه السلام) وأول من كتب بالقلم إدريس"، وإن الخطوط القديمة أربعة: الخط الصيني، الذي انتشر في الصين، والخط المسماري الذي انتشر في دول غرب آسيا، والخط الهيروغليفي المصري الذي انتشر في مصر، والخط الهيروغليفي الحيثي الذي انتشر أكثر من سابقه. ويرى البعض أن الفينيقيين الذين استوطنوا لبنان في القرن 28 قبل الميلاد أول من اكتشف الحروف الأبجدية، ومنهم أخذ اليونانيون والإيطاليون، وفيما بعد انتشر في أوروبا وغيرها. على إن اللغات بعد حصول طوفان نوح (عليه السلام) في العام 3824 قبل الهجرة (3088 ق.م)، تشعبت وتطورت معها الحروف الأبجدية من لاتينية وصينية وسريانية وعبرية وعربية.
ويشار إلى أن النبي إسماعيل المولود في بادية الشام في العام 2167 قبل الهجرة (1480 ق.م) كان يتكلم العربية، أما الخط العربي في الحجاز وإلى قرن قبل ظهور الإسلام لم يكن معروفا، مع التأكيد أن المعلقات الشعرية كانت ترفع على جدار الكعبة، وعندما جاء الاسلام فلم يكن يعرف الخط إلا بضعة عشر رجلا منهم الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي أشار على أبي الأسود الدؤولي (1 ق.هـ - 69 هـ) أن يضع الحركات والنقاط على الحروف، ولذا: "يعتبر الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) المعلم الأول للخط العربي في الإسلام، والساعي إلى تطويره".
ولا يعني هذا أن معرفة العرب بالخط قريبة عهد، فالأمر متعلق بمكة وما حولها، ذلك إن: "العرب الذين كانوا مجاورين للفرس والرومان وبني حمَير في اليمن والأنباط في شمال الجزيرة العربية فقد تعلموا الخط منذ زمن بعيد، على أن بعض أهالي الحجاز ممن رحلوا إلى العراق أو الشام تعلّموا الخط العربي، ثم لما جاء الإسلام نشأ خط النسخ عن الخط النبطي، والخط الكوفي عن الخط السرياني". ويلاحظ في الخطوط العربية نسبتها إلى الحجاز، بلحاظ أن مكة والمدينة في ذلك الحين وبخاصة المدينة المنورة كانت تمثل مدنية وحاضرة علمية يشار لها بالبنان، كما كانت المدارس الفكرية والمذهبية والفقهية تشار إلى المدن التي نشأت أو حلّت فيها، وهو أسلوب لازال قائما في فنون وعلوم عدة.
الخط فن وجمال
ويعدد المحقق الكرباسي 22 نوعا من الخطوط الأصيلة والمستحدثة والتي تولّدت عن أخرى، وهي:
- خط الإجازة: مشتق من الثلث والنسخ.
- الخط الأندلسي: ويسمى بالخط القرطبي وهو مقوس الأشكال.
- الخط البصري: اشتهر فيه الحسن البصري (21-110 هـ) الذي يعتبر من المجوّدين في الخط بعد الامام علي (عليه السلام)، ويعتقد أن الخط البصري تم تطويره من الكوفي.
- الخط البغدادي: نشأ في العهد العباسي إلى جانب خطوط أخرى كانت تستعمل لوظائف معينة بخاصة في دواوين الحكم، وفي عهد المأمون (ت 218 هـ) ازدادت الخطوط إلى عشرين.
- خط التاج: ابتدعه الخطاط المصري محمد محفوظ للملك فؤاد الأول (1868-1936م) في العام 1930م، لكن الكرباسي يذهب إلى إن هذا الخط لا يعد مستقلا بذاته لان علامة التاج: "من العلامات التي يمكن وضعها على كافة أنواع الخطوط".
- خط التعليق: ابتدع قواعده الحسن الفارسي (288-377 هـ)، من أقلام النسخ والرقاع والثلث.
- خط الثلث: وضع قواعده الوزير والكاتب محمد بن مقلة (ت 328 هـ)، وهو منحدر من الخط الكوفي.
- الخط الحديث: من خطوط عهد الحداثة، يستعمل الكاتب خطوطا هندسية مكعبة وخطوطا مدموجة فتصبح الكلمة وحدة شكلية وصيغة زخرفية مستقلة.
- الخط الحر: لا يتقيد الخطاط فيه بشكل معين وهندسة خاصة وإنما يخط الحرف حسب ذوقه مع الأخذ بالاعتبار عامل التناسب بين الخط ومدلوله.
- الخط الحيري: نسبة إلى مدينة الحيرة بالعراق ويسمى بالحمَيري أيضا، لانتقاله من ملوك التبابعة الحمَيريين إلى أصهارهم المناذرة، وأدرك ظهور الإسلام لكنه تراجع أمام الخط الكوفي.
- الخط الديواني: سمي بذلك لكثرة استخدامه في دوائر الدولة (الدواوين)، وينسب في وضعه إلى إبراهيم التركي (ت 860 هـ) في عهد السلطان محمد فاتح العثماني الذي تولى الحكم في العام 855 هـ (1451م).
- خط الرقعة: يُنسب إلى القصاصة من الورق واشتهر في كتابة الحِكَم، ويصعب نسبته إلى شخص بعينه إلا انه عثر على نصوص بخط الرقعة ترجع في تاريخها إلى العام 886 هـ (1481م)، على إن خط الرقعة المتداول اليوم ينسب في وضع قواعده إلى المستشار ممتاز بك حوالي العام 1280 هـ (1863م)، وقد يسمى "ديواني رقعة" بوصفه من مشتقات الديواني.
- الخط الريحاني: تتداخل حروفه بما يشبه أعواد الريحان، ويرى المحقق أن هذا الخط منشأه من الديواني او الثلث، ولذلك لا يصح تفرده بخط مستقل.
- خط شكسته: أي المكسور، معربة عن الفارسية، حيث لا يرسم الكاتب الحرف كاملا ويرجع بواضع قواعده إلى الخطاط محمد شفيع الحسيني المشهور بشفيعا المتوفى عام 999 هـ (1590م).
- خط الطومار: نسبة إلى الصحيفة الطويلة وهو على ثمانية أقسام.
- الخط الكوفي: ناشئ عن الخط السرياني، ومن أقدم الخطوط العربية، استعمل في كتابة القرآن الكريم لقرون عدة، وقد استعمله النبي محمد (ص) في تدوين آيات القرآن الكريم عندما كان يسمى بالحيري.
- الخط المدني: نسبة إلى المدينة المنورة، وظهر في عهد الخلافة (11-40 هـ)، وأقدم وثيقة منه تعود إلى العام 22 هـ، ويستنتج المحقق انه من مولدات الخط الكوفي المسمى بالتحرير وبالدارج.
- الخط المغربي: نسبة إلى المغرب الإسلامي ويقال له الأفريقي، وهو مشتق من الخط الكوفي، ومن الخط المغربي اشتق: خط القيروان والأندلسي والتونسي والجزائري والفاسي والسوداني والسنغالي.
- الخط المكّي: نسبة إلى مكة المكرمة، وهو أول الخطوط العربية يليه المدني ثم البصري ثم الكوفي.
- الخط النبطي: نسبة إلى قبائل النبط البدوية العربية، تعلموه من مدينة حوران الشامية.
- خط النستعليق: نسبة إلى النسخ والتعليق، ازدهر في ايران في القرن الخامس عشر الميلادي وكذلك في تركيا.
- خط النسخ: نسبة إلى استنساخ المصاحف على صورته، وهو ناشئ عن الخط النبطي، وطوره السوريون، ولوضوح رسمه وبداعته وكتابة القرآن به سمي بالجليل والبديع والقرآني، وهو على ثمانية أقسام.
في الواقع أن الخط هو فن وجمال، ورسم الحروف وتشكيل الكلمات يُمثل لوحة فنية تشرح الفؤاد وتسر النفس، وإذا كتبت الحكمة بخط جميل ناغت شغاف القلب سِراعا، ولذلك وحتى يضع المحقق الشروحات أمام مقلتي القارئ ختمها بعبارة للإمام الحسين: (إن لم يكن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم)، رسمت بالخطوط الشهيرة.